الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

الشهيد حسين مروة

حسين مروة

الدكتور حسين مروه، (1910-1987)، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني سابقاً قيادي شيوعي بارز في لبنان والعالم العربي له العديد من المؤلفات ويعتبر أبرزها وأكثرها شهره على الإطلاق كتاب النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية الكتاب الذي أثار جدلا كبيراً في وقته. ترأس تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من العام 1966 حتى شباط 1987 (تاريخ استشهاده)عضواً في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي. أغتيل الدكتور حسين مروه في منزله في ١٧ شباط عام 1987.

حياته

ولد حسين مروة عام ١٩١٠ في قرية حداثا في جنوب لبنان بحسب السجلات الرسمية، ولكن مروة روى أن تاريخ ميلاده الحقيقي هو العام ١٩٠٨. آرسله والده إلى العراق عام 1924 لدراسة العلوم الإسلامية في جامعة النجف، وانهى دراسته فيها عام 1938. بدأ اهتماماته بالكتابة الأدبيّة منذ سنوات دراسته الأولى في العشرينات، فكتب المقالة والقصة والنقد والبحث، كما كتب بعض الشعر. بداية اطلاعه على الفكر الماركسي كانت عام 1948 عبر قراءة "البيان الشيوعي" الذي اعاره ايّاه الشهيد حسين محمد الشبيبي (أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي). شارك أدبياً واعلامياً وعملياً في احداث الوثبة الوطنية العراقية عام 1948، التي اسقطت معاهدة بورستموث البريطانية مع حكومة العهد الملكي. وإثر عودة نوري السعيد إلى الحكم في العراق عام ١٩٤٩، اتخذ القرار بإبعاده من العراق فوراً مع عائلته ونزع الجنسية العراقية التي كان قد اكتسبها أثناء مكوثه أكثر من عشرين عاماً في العراق. عاد مروة في شتاء عام ١٩٤٩ إلى بيروت حيث واصل الكتابة الأدبية في زاويته اليومية "مع القافلة" في جريدة الحياة لمدة سبع سنوات. تعرّف عام 1950 إلى فرج الله الحلو وانطون تابت ثم إلى محمد دكروب، ونتج من هذا التعارف تأسيس مجلّة الثقافة الوطنية التي أصبح الشيخ حسين مديراً لتحريرها إلى جانب دكروب انتظم رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني عام1951. انضم إلى قوات انصار السلم (تجمعّ الأحزاب الشيوعية العربية لتحرير فلسطين) عام 1952. انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني وبعدها عضواً في المكتب السياسي. ترأس تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من العام 1966 حتى شباط 1987 تاريخ استشهاده. عضو في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.
درّس مادة فلسفة الفكر العربي في الجامعة اللبنانية في بيروت
وحاز على شهادة دكتوراه فخرية من موسكو. تزوّج من ابنة بنت عمّه فاطمة بزّي وأنجب تسعة أولاد هم نزار مروة، حسان مروة، أحمد مروة، أمل مروة، سحبان مروة، هناء مروة، فريدة مروة، هدى مروة ويسر مروة

مؤلفاته

  • دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي
  • تراثنا كيف نعرفه
  • دراسات في الفكر والأدب
  • الثورة العراقية
  • قضايا أدبية
  • النزاعات المادية في الفلسفة العربية والإسلاميّة (ثلاثة اجزاء)
  • من النجف دخل حياتي ماركس
  • ولدت شيخاً وأموت طفلاً (سيرة ذاتية)

كتب عنه

  • شهادات في فكره ونضاله (عدد من المفكرين الماركسيين والأدباء)
  • سلسلة مقالات في مجلات الطريق والنهج والوقت
  • حسـين مروّة الموقف والمفكر (بدأها مهدي عامل واغتيل قبل أن يكمل كلمته في رفيق دربه أبو نزار)
  • ............................

  • قراءة في فكر الشهيد حسين مروة - عبد الله بيردحا - YouTube

    https://www.youtube.com/watch?v=aSp6Cn4qLZ0
    17‏/10‏/2015 - تم التحديث بواسطة abdella birdaha
    في اطار الاسبوع الثقافي لالثاني جمعية الافق للثقافة والفن - تيزنيت 2007.
    ....................
     
    ولد عام 1908 في قرية حداثا قضاء بنت جبيل

    - تلقى دروسه الاولى في المدرسة الرسمية في حداثا


    - هاجر الى العراق عام1924 لدراسة العلوم الاسلاميةفي جامعة النجف, و عاد منها عام 1938 مكملاً شروطها العلميّة


    - بدأ اهتماماته بالكتابة الادبيّة منذ سنوات دراسته الاولى في العشرينات , فكتب المقالة و القصة و النقد و البحث , و كتب القليل من الشعر


    - بداية اطلاعه على الفكر الماركسي كانت عام 1948 عبر قراءة «البيان الشيوعي» الذي اعاره ايّاه الشهيد حسين محمد الشبيبي (أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي) , فوجد فيه الطريق الى الانسانيّة و العدالة الاجتماعية


    - شارك أدبياً و اعلامياً و عملياً في احداث الوثبة الوطنية العراقية عام 1948 , التي اسقطت معاهدة « بورستموث» البريطانية مع حكومة العهد الملكي


    - ابعد من العراق عام 1949 بعد عودة نوري السعيد الى الحكم


    - استأنف الكتابة الادبية في لبنان بعد عودته مباشرةً , ظلّ سبع سنوات متواصلة يكتب زاويته اليومية المعروفة «مع القافلة» في جريدة الحياة


    - تعرّف عام 1950 على فرج الله الحلوو انطون تابت ثم على محمد دكروب , نتج عن هذا التعارف تاسيس مجلّة الثقافة الوطنية , والتي اصبح الشيخ حسين مديراً لتحريرها الى جانب دكروب


    - انتظم رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني عام1951


    - انتظم في صفوف قوات انصار السلم (تجمعّ الاحزاب الشيوعية العربية لتحرير فلسطين) عام 1952


    - انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب , و بعدها عضواً في المكتب السياسي


    - ترأس تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من العام 1966 حتى شباط 1987 (تاريخ استشهاده)


    - عضواً في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الابحاث و الدراسات الاشتراكية في العالم العربي


    - درّس مادة فلسفة الفكر العربي في الجامعة اللبنانية في بيروت


    - تزوّج من ابنت بنت عمّه فاطمة بزّي , اولاده: نزار _ أحمد_ حسان و سحبان


    - اغتيل في بيته في منطقة الاونسكو في شباط 1987 من قبل اعداء الفكر و الثقافة و الديمقراطيّة , ادوات الرجعيّة و الامبرياليّة


    مؤلفاته:


    -الثورة العراقية


    - قضايا أدبية


    - دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي


    - النزاعات المادية في الفلسفة العربية و الاسلاميّة (ثلاثة اجزاء)


    - من النجف دخل حياتي ماركس


    - تراثنا كيف نعرفه


    - ولدت شيخاً و أموت طفلاً (سيرة ذاتية)

    .................
     لشيخ الماركسي ... مفكّرٌ، شهيدٌ، شجاع

    الشيخ الماركسي ... مفكّرٌ، شهيدٌ، شجاع

    ايمن مروة -

    دائماً ما يكون قارع الباب ضيفاً ولكن قليلاً ما يكون لطيفاً، وتاريخ 17 شباط من العام 1987 جنّد ضيفاً ليس لطيفاً أبداً وغير متوقّع وليس مرغوباً ولا مشرّفاً دخوله قلعة الفكر والعلم. في ذلك التاريخ قارع الباب جاء غريباً وجاهلاً، الغدر من صفاته، الإجرام والقتل أمانته.

    قرع باب القلعة الفكريّة الماركسيّة ليدخل على أهل العلم والمعرفة بزيفه وسلاحه فأردى ببانيها على فراش لطالما احتضن أحلامه بالتقدّم وألهم عقله فكراً وصفّى ذهنه من مصائب الدنيا الكادحة وأعطى خياله مساحة ليبدع في الأدب.
    دخل وقحاً ليعدم راعيها وحاميها، لم يدخل بدافع السرقة ولا كان السبب هو النشل. على العكس تماماً، دخل القاتل ودافعه الحقد على الإبداع، ذلك الشعور الّذي لم تعرفه أخلاق الضحيّة، والخوف من العلم الّذي كان يعشقه عقل المغدور، والجبن من مواجهة الحقيقة الّتي كانت تأكل من عمر القتيل ليالي حتّى تتكشّف وتبان. أمّا السبب واضح وهو الجهل والغباء.
    أعدمت اليد السوداء الظلاميّة اليد البيضاء الحالمة وأطلقت باتجاه رأس القلم رصاصة هي نفسها لم تكن مقتنعة بما تفعله وانطلقت رغماً عنها لأن ليس باستطاعتها أن تتحكّم بزناد يخيّم عليه اللا شعور واللا إحساس واللا معرفة، لأنّها كانت تدرك أكثر من القاتل أنّها ترمي وتردي فقيراً كادحاً ودارساً دؤوباً للعلوم الدينيّة، ومجتهداً واسع الأفق، متمرّداً دائم على الجمود واللاحركة في التحليل المادي للزمان والمكان، للتاريخ والأحداث والظواهر، وكاتباً أديباً منحازاً للناس والفقراء والكادحين والتقدّميين، لأنّها تعرف أكثر من المنفّذ أنّها تقتل مناضلاً وطنيّاً شارك في العديد من معارك الكفاح والنضال الوطني التحرّري، لأنّها تعرف أنّها تدمّر مدرسة رياديّةً قدّمت الكثير لحركة النفد الأدبي الواقعي العلمي، وبحثت عميقاً في التراث العربي الفكري والفلسفي معتمدة المنهج العلمي المادي، وخلّدت أسطورة فكريّة إسمها "النزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة والإسلاميّة".
    لم تكن تعرف أنّها تحرم العالم من قيمة إبداعيّة ثقافيّة معرفيّة ربطت نتاجها الفكري بالتفاعل الميداني والنشاط العملي في الحركة الكفاحيّة ومسارها النضالي، فبان بوضوح ذلك الذكاء المعرفي لهذه القيمة بالربط بين الفكر والممارسة العمليّة بتفاعلٍ دياليكتيكي، فكانت دائماً حيث الكتابة يبدع قلمها وحيث العمل المباشر تصوغ المعرفة العلميّة، لم تكن هذه الرصاصة تعرف أنّها تقتل الشهيد المفكّر "حسين مروّة".

    غيّبت هذه الرصاصة مولود العام 1908 عن قريته حداثا الّتي تفبع في جغرافيا قضاء بنت جبيل، والّتي هاجرها الى العراق عام1924 لدراسة العلوم الاسلامية في جامعة النجف, و عاد منها عام 1938 مكملاً شروطها العلميّة، فكانت بدايات اهتماماته بالكتابة الادبيّة منذ سنوات دراسته الاولى في العشرينات . كتب الأدب والنقد، والسياسة والفلسفة، وتميزت كتاباته بالتحريض على محاربة الإستعمار وبإلتزامه المبكّربقضية التحرر الوطني في العالم العربي. كتب القليل من الشعر، و درّس مادة فلسفة الفكر العربي في الجامعة اللبنانية في بيروت، أمّا بداية اطلاعه على الفكر الماركسي فكانت في العام 1948 عبر قراءة «البيان الشيوعي» الذي اعاره ايّاه الشهيد حسين محمد الشبيبي (أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي) , فوجد فيه الطريق الى الانسانيّة و العدالة الاجتماعية كما يقول. شارك أدبياً و اعلامياً وعملياً في احداث الوثبة الوطنية العراقية عام 1948 , التي اسقطت معاهدة « بورستموث» البريطانية مع حكومة العهد الملكي وأبعد على أثرها من العراق عام 1949 بعد عودة نوري السعيد الى الحكم، استأنف الكتابة الادبية في لبنان بعد عودته مباشرةً, وبقي سبع سنوات متواصلة يكتب زاويته اليومية المعروفة «مع القافلة» في جريدة الحياة، حيث تميزت هذه المقالات بملاحقته للأحداث اليومية والقضايا المطروحة بهدف كشف ما تحمله من أبعاد سياسية، إجتماعية، فكرية وأدبية وذلك بإسلوبه المميز. جمعت هذه المقالات فيما بعد بكتاب "مع القافلة" والّذي صدر في العام 1952، تعرّف عام 1950 على فرج الله الحلو و انطون تابت مفكرّي الحزب الشيوعي اللبناني ثم على محمد دكروب مؤرّخ هذا الحزب, نتج عن هذا التعارف تاسيس مجلّة "الثقافة الوطنية" , والتي اصبح الشهيد المفكّرحسين مديراً لتحريرها الى جانب دكروب. فخاض على صفحاتها معركة فكرية ضد أتباع الفكر المثالي والرجعي في الأدب والنقد، حيث وضع دراسات تناول فيها التراث الأدبي والفكري العربي بنظرة جديدة ورائدة تضيء جوانبه الجمالية التقدمية المحجوبة، وإنتقد، في الوقت نفسه، نظرية "الفن للفن"، وبذلك ساهم بتأسيس المنهج الواقعي في مجال النقد الأدبي في العالم العربي. بعد ذلك جمعت هذه المقالات والدراسات في كتاب "قضايا أدبية" الّذي صدر عام 1956 .
    انتظم رسمياً في الحزب الشيوعي اللبناني عام1951، كما انتظم في صفوف قوات انصار السلم (تجمعّ الاحزاب الشيوعية العربية لتحرير فلسطين) وذلك في العام 1952 ، انتخب عام 1965 عضواً في اللجنة المركزية للحزب , و بعدها عضواً في المكتب السياسي، كما ترأس تحرير مجلّة الطريق الثقافيّة من العام 1966 حتى شباط 1987 (تاريخ استشهاده).

    كان عضواً في مجلس تحرير مجلّة النهج الصادرة عن مركز الابحاث و الدراسات الاشتراكية في العالم العربي، من مؤلّفاته "الثورة العراقية" الذّي صدر في العام 1958 ، والذي عمل فيه على تحليل أسباب الثورة العراقية عام 1958 ، كاشفا الظروف الإجتماعية والسياسية التي أدت إلى إنتصارها مع عرض للأحداث والإنقلابات التي شهدها العراق في مطلع عشرينات القرن الماضي، بعد 9 سنوات، أكمل حسين مروة معركته الفكرية التي خاضها ضد أتباع الفكر المثالي والرجعي، حيث صدر عام 1965 كتابه "دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي"، والّذي تميز بمساهمته في إستكمال المعركة، وذلك بتطوير الشهيد حسين من خلال الكتاب للمنهج الواقعي للنقد وبدراسات جديدة نقد فيها بعض الأعمال الأدبية والنقدية والفكرية لبعض الكتاب من لبنان والعالم العربي .
    هذا وقد شهد عام 1978 ظهور كتاب كان الأول من نوعه : "النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية" الذي وضع فيه الشهيد المفكّرحسين مروة أسس دراسة التراث في ضوء المنهج المادي العلمي . وقد شكل هذا الكتاب في جزئيه دليلا ً ماديا ً علميا ً على أن مفهوم التراث يختلف بإختلاف المنهج المستخدم وبإختلاف الموقع الطبقي بين منهجين على طرفي نقيض هما : المنهج المادي الماركسي والمنهج المثالي الميتافيزيقي بكافة تسمياته وأشكاله. فمن موقع الإختلاف الطبقي ومنهجه كشف كاتبُهُ النزعات المادية والثورية في التراث من خلال ربطه للتراث بتطور البنية الإجتماعية وتناقضاتها، في تلك المرحلة التاريخية، وبذلك أثبت أن ما يتضمنه التراث من مواقف مثالية أو نزعات مادية أو ثورية لم تأت من فراغ بل كانت مرتبطة موضوعيا ً بتطور الواقع الإجتماعي . تميزت دراسة حسين مروة للتراث بأنها لم تنحصر بالكشف عن ما هو مادي فيه، بل كانت دراسة شمولية للتراث حتمتها طبيعة المنهج المادي التاريخي، فالدراسة تفقد علميتها إذا أهملت أي جزء من أجزاء موضوعها المدروس، والتراث، أو أي موضوع آخر، هو من نتاج الواقع المادي الإجتماعي في نهاية الأمر. وهذا ما أثبته حسين مروة في هذا الكتاب، أما الميزة الأخرى التي تميز دراسته للتراث في كتابه "النزعات المادية ..." تكمن في كيفية تحديده للأشكال المادية أو المثالية في الفلسفة العربية – الإسلامية ، فهذه الأشكال تختلف في الفلسفة من عصر لآخر، أي أنها غير ثابتة بل دائمة التطور. من هذا الوعي إنطلق الشهيد حسين في تحديده لمقاييس التمييز بين الأشكال المادية أو المثالية في الفلسفة العربية – الإسلامية، فلم يحصرها في مقياس علاقة الوجود بالوعي بل ، أيضا ً، في علاقتها بالنظام الإجتماعي الذي ينعكس فيها بشكل من الأشكال، وعلاقتها، في الوقت نفسه، بمستوى تطور العلوم الطبيعية، في تلك المرحلة التاريخية، كون تطور الفلسفة، بإتجاهها المادي، مرتبط بتطور العلوم عن الطبيعة ومعرفة قوانينها الموضوعية، وعلاقتها بالموقف من مسألة الوجود والماهية، وما لهذا الموقف من مسألة الوجود والماهية من علاقة بالنظام الإجتماعي السائد؛ مما يدل على أن تحديد الأشكال المثالية أو المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية عملية معقدة وليس عملية ميكانيكية . ولكن دراسة حسين مروة للتراث، في كتابه "النزعات المادية..."، لم تتوقف عند هذا الحد، فلقد قال منذ البدء، "إن دراسته للتراث لم تكن رغبة ذاتية لأنه ليس بالرغبة الذاتية يكون "الشيء" حقيقة أو لا يكون، ذلك بأن الحقيقة ليست ذاتية. إنها موضوعية. وإلا فليست بحقيقة إطلاقا ً، بل وهماّ أو تصورا ً. مما يدل على أن حسين مروة درس التراث إنطلاقا ً من إيمانه بقضية التحرر الوطني في العالم العربي التي ناضل وإستشهد من أجلها بهدف كشف النزعات المادية والثورية في التراث، مثبتا من خلالها أن معرفة التراث تختلف بإختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، وأن النظرة إلى الحاضر تختلف، أيضا، بإختلاف الموقع الطبقي بين الناظرين فيه، فهناك حاضر الطبقات والفئات الرجعية الذي هو على موعد مع أجلٍ يتأجل، وهناك حاضر الطبقات والفئات الثورية الذي هو الممكن ضد القائم وتناقضاته، "ولكل من تلك وهذه حاضرها المتميز" . بإختلاف الحاضر بين الطبقات لإختلاف موقعها الطبقي فيه، تختلف علاقة الحاضر بالماضي وتختلف معرفة الماضي "التراث" لإختلاف النظرة الأيديولوجية – الطبقية للتراث، بالرغم من كونه، كواقع تاريخي، واحد. وبالتالي، فإن كشف حسين مروة للنزعات المادية والثورية في التراث حتمته الشروط المادية التاريخية لحركة التحرر الوطني، آنذاك، التي حتمت ضرورة إنتاج معرفة ثورية للتراث، تنطلق من موقع الطبقة الثورية أي الطبقة العاملة وأيديولوجيتها التي تحدد علميا ً، الموقف الثوري من قضايا الحاضر. فمن موقع الطبقة العاملة وأيديولوجيتها الثورية وضع حسين مروة الأسس الثورية لعلاقة الحاضر بالماضي المؤسسة لبناء المستقبل الآتي على أنقاض الحاضر الرجعي وقواه.

    بإختصار شديد، يمثل كتاب "النزعات المادية ..." ذروة تكامل مستويات النضال من أجل حركة التحرر الوطني العربية التي وضع الحزب الشيوعي اللبناني أسسها العلمية حيث تجلت بأبهى صورها بتكليف الحزب للشهيد حسين مروة بدراسة التراث في ضوء المنهج المادي العلمي.
    وفي العام 1979 صدر كتاب "دراسات في الإسلام" شارك فيه عدد من الكتاب، من بينهم حسين مروة حيث قدم فيه دراسة بعنوان "مقدمات أساسية لدراسة الإسلام" . تنقسم هذه الدراسة إلى قسمين الأول هو "الإسلام – الثورة في ضوء المنهجية العلمية" إفتتحه بقوله : "جاء الإسلام العالم في وقته المحتوم". أي أن الإسلام أتى "على قدر الحاجة إليه في وقت الحاجة إليه... فهذا معنى أن يأتي في وقته المحتوم. فالحتمية، إذن، تاريخية، أي مرتبطة بمسيرة الزمن التاريخي". أما ثورية الإسلام فتكمن بتحويله لأساس البنية الإجتماعية التي وجد فيها، أي أن الإسلام، بكل ما يتضمنه، كان مرتبطاً بضرورات تاريخية حتمت ظهوره في وقته المحتوم. أمّا القسم الثاني فهو "الإسلام – التراث في ضوء الموقف الثوري من التراث الديني والفلسفي" . حدد حسين مروة في هذا القسم معنى الفهم المادي لمفهوم التراث الثقافي، وعلاقة الحاضر وثقافته بالتراث، مميزا ً بين فهمين للتراث وعلاقته بالحاضر، أولهما الفهم المثالي، وثانيهما الفهم المادي التاريخي الذي ميزه، في الوقت نفسه، عن الفهم المادي المبتذل للتراثوعلاقته بالحاضر.
    في عام 1984 صدر كتابه "في التراث والشريعة" وكان يحتوي على دراستين الأولى بعنوان "مكان التراث الإسلامي في الفكر المعاصر" ، والثانية تحت عنوان "الشيخ عبدالله العلايلين فقيها" . حدد فيهما حسين مروة بشكل دقيق وعميق مفهوم "الفقيه" ، مبررا ً حاجتنا إلى مثل هذا التحديد كون الأحكام الشرعية المطبقة، في عصرنا، هي أحكام شرعية موروثة تكونت في شروط مادية تاريخية مختلفة عن شروطنا التاريخية. ومن دقة وعمق تحديده لمفهوم "الفقيه" وإظهاره لأهمية الإجتهادات الفقهية الموجودة في "أين الخطأ" ، أكمل حسين مروة واضعاً أسس دراسة الفلسفة العربية الإسلامية بمعناها الواسع والضيق في ضوء المنهج المادي العلمي، فالفلسفة العربية الإسلامية بمعناها الواسع تضم علم الكلام، والتصوف، وفلسفة إخوان الصفا، والفقه ...إلخ، أما بمعناها الضيق فتضم فلسفة الكندي، والفارابي، وإبن سينا... الخ.

    وغيرها العديد والعديد من الإسهامات الأدبيّة والثقافيّة والفكريّة الّتي أكرم علينا وأنعم علينا بها هذا المفكّر والمناضل الشيوعي الكبير الشهيد حسين مروّة الّذي ومهما كتبنا عنه سنجد أنفسنا مقصّرين امام ما كتبه قلمه وأبدعته يداه وفكّره عقله وضحّت به حياته.

    لعلّ أكثر ما يمكن أن نكرّم به هذا العملاق هو التذكير والإضاءة على فكره خاصة وأنّ أيّام قليلة تفصلنا عن تاريخ استشهاده وذكراه الثانية والعشرين، وهو على الأرجح أيضاً أن نستفيق من ثباتنا الفكري العميق وأن نستنهض فينا المنهج العلمي الماركسي (الديالكتيك) الّذي كان سبباً رئيسيّاً في إبداعه، ربّما هذا الإسنهاض يعيدنا إلى المسار الصحيح ويساهم في تقدّمنا وتطوّرنا وسيرورتنا النضاليّة ويساعدنا على تحديد المواقف من كل منتهكي الحقوق وأصحاب المشاريع بجرأة أكبر دون خوف حتّى لو كلّفنا هذا ما كلّف وبشرف كبير هذا المفكّر، ولنوضّح لأنفسنا وندرك ونعرف تمام المعرفة نحن كشيوعيين وماركسيين أكثر من هم حلفائنا الحقيقيين ومن هم أعداء الإنسانيّة ومن هم اللّذين يقفون حاجزاً أمام تحقيق العدالة المنشودة الّتي ننادي بها، نكرّم الشهيد حسين مروّة بالعودة للمنهج المادي العلمي لقراءة الظواهر الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة والفكريّة والفلسفيّة والدينيّة والأيديولوجيّة قراءةً موضوعيّة وجدليّة.
    هكذا أرادنا أن نكون هذا المبدع الخلاّق وهكذا أراد للحزب الشيوعي اللبناني أن يكون حين قال في تقريره الّذي كلّفه الحزب إعداده لقراءة التراث الفكري العربي الإسلامي :
    "الرفاق أعضاء المكتب السياسي تحية رفاقية وبعد،...
    في مثل هذا اليوم، منذ عشر سنوات بدأت الرحلة الرائدة، في عالم التراث الفكري العربي – الإسلامي، التي شرفني الحزب أن أكون أول مغامرا ً يدخل نورا ً – في مجاهلها، خارقا ً أكثر من سور فكري وأيديولوجي مضروب حول هذا العالم التراثي منذ أقاصي العصر الوسيط حتى الثلث الأخير من القرن العشرين. وفي هذا اليوم ذاته، بعد العشر سنوات ترفعني إليكم، أيها الرفاق، موجة فرح وإعتزاز لأتقدم بأول "تقرير" عن الرحلة. أقول أول "تقرير" ولا أقول "التقرير" الكامل، لأن الرحلة لم تنته بعد، وليس من شأنها أن تنتهي الآن. الرحلة بدأت ليس أكثر... وهذا "التقرير" الأول عن الرحلة هو محصل البداية ليس أكثر. لقد بدأها الحزب رائدا ً وسيواصلها رائدا ً، عبر قوافل مجيدة من الرفاق يجهزون للغد قوافل مديدة من الأجيال. "تقريري" الأول عن الرحلة – البداية هو هذه القارورة الأولى من عرق المغامرة الأولى في افتراع المجاهل والمتاهات. هو هذا الكتاب الأول الذي يحمل إليكم، أيها الرفاق، أول القطاف. الحزب هو الذي غرس، وهو الذي تعهد الغرس ورعاه لحظة لحظة... والتربة...هذه التربة الفكرية، التي حملت الغرس بأمانة، حتى أزهر وأثمر، هي أيضا أعدها الحزب، ونقّاها، وأمدها بأشواق الخصب...
    حزبي العزيز،
    منك الهبات كلها : التربة، والغرس، والرعاية... فهل إلا إليك ، إذن، أول
    القطاف؟...
    شرفي الأبهى، وفرحتي الأعمق أن تقبلُهُ...".
    هكذا يجب علينا وعلى الحزب الشيوعي اللبناني اليوم أن يكون وأن يقبل، وهكذا يكرّم هذا الحزب روّاده وريادييه من مفّكرين وشهداء سلاح وقلم بأن يدركوا قيمة هذا القطاف وهذا العطاء.




    أيمن مروّة
    بتاريخ 19/01/2008
     ...........................
     من النجف دخل حياتي ماركس



    حسين مروة
    هذه كبرى المفارقات في حياتي..
    رحلت الى النجف صغيراً.. لكن الحلم الذي رحل معي كان كبيراً كبيرا.. والمفارقة هنا ان الحلم هذا لم يستطع ان يعيش معي في النجف طويلاً.. لماذا؟.
    -الف سبب وسبب يمكن ان يقدم لي نفسه بهذه المناسبة، فأتعرفه وأعرفه جيداً، لكن السبب الحقيقي، المباشر او غير المباشر، هو الوحيد الذي اجهله منذ البدء، وما ازال..






    -ان اصير "شيخاً" مهيباً مرموقاً، كوالدي.. ذلك كان حلمي الاول، سبق كل احلامي سبق حتى احلام طفولتي وحين بدأت تتدفق بها ذاتي اخذ يحتويها جميعا، او هو: اخذ يلتهمها جميعا بشراسة..هذا الحلم لبسني قبل ان اجتاز سن الثامنة.. ولبستني معه العمامة والجبة قبل اوانهما "الطبيعي" العامامة والجبة كرمز للحلم ذاته اولاً، وكأداة إلزام لي بموجبات الحلم ثانيا..
    قلت: حلمي؟
    -لا ، عفوا ..ذلك كان، منذ البدء حلم أبي ، ثم أمي والاسرة ، ثم سائر العائلة في سائر جبل عامل..ومذ بدأ يتكون كحلم لي ، مات ابي.. لكن الحلم لم يمت ، لأنه صار حلمي.. مات ابي وفي نفسه لهفة ان يبقى طويلاً حتى يتحقق الحلم.. مات وأنا في الثانية عشرة، فأحسست ثقل الحلم يفيض عن طاقتي ، ابي كان يبدو لي انه من اهل اليسر المادي، فإن منزلنا في "حداثا" لم يكن يخلو من الضيوف على مدار العام، ولم تكن الضايفة- مادة وطريقة –تنزل عن مستوى الضيافة المألوفة عن اهل اليسر في بلادنا في ذلك الزمن.. وظهر لي فور موت ابي اننا من اهل الفقر، لا من اهل اليسر، وفجأة رأيت أننا صرنا في مكان مكشوف جدا بين صفوف الفقراء من اهل بلادنا..كيف اذن احمل الحلم، بعد؟
    -في البداية حملته وحدي، اخذت اطوف به من بلدة الى بلدة، باحثاً له عن غذاء علمي اولي عند اهل العلم من بقايا الاجيال الدارسة في جبل عامل، مكتفياً بالاقل الاقل من ضرورات الغذاء الجسدي..
    ثم كان "لابد من صنعاء".. وكانت "صنعاء" حينذاك هي النجف دار الهجرة الاولى لكل شيعي في العالم يحلم كحلمي ذاك.. الحلم سيبقى قاصراً، سيبقى فجاً ان لم تلفحه شمس النجف، سيتحول قزماً الى النهاية ان لم أدركه ، قبل فوات الاوان، بالهجرة سريعا الى النجف –وكانت الهجرة (1924)..
    لم يستطع الحلم ان يعيش معي في النجف اكثر من عام واحد..
    لن اقول: "لماذا" مرة اخرى، لأنني سأقول مرة اخرى ايضاً: ان السبب الحقيقي هو الوحيد الذي أجهله من بين الاسباب الكثيرة التي تعرض نفسها لي في مسافة طويلة من مسافات الذاكرة، كلما عرض لي هذا السؤال..
    لكن، اذا كنت اجهل حتى الان ذلك السبب الحقيقي الخفي، فإني اعرف، وما نسيت قط، ان ذاك الحلم الطيب الاليف بدأ ينتابه الضمور والذبول في ذاتي، أي أخذ يفقد –شيئاً فشيئاً – صفته كحلم لي، ليعود اخيراً الى ما كاأنه في البدء: حلم الاسرة والعائلة في جيل عامل فحسب..
    العام الاول لهجرة النجف، ما كاد ينقضي حتى رأيت خاطراً قاهراً صارماً يعترضني يريد ان يحملني على الاختيار الحاسم في مسألة دقيقة للغاية، وهي مسألة تحديد وجهة المصير:مصير حياتي كلياً..
    كان علي ان اختار: إما قرار العودة الى الارتباط النهائي بذلك الحلم الذي حملني هو الى دار الهجرة، النجف: أي ان اقرر –منذ لحظتي تلك – متابعة السير في مسار "المهنة" التي كانت كل مطمح الحلم..وإما ان أقرر الانعطاف القاطع عن هذا المسار..الاختيار، لأنه لم يرتفع الى مستوى كونه احد طرفي الاختيار، ما كان يعنيني –في لحظتي – سوى ان اختار إما متابعة الخط المرسوم لي من قبل، وإما الانعطاف عنه، وان الى المجهول؟..
    لم أتردد مطلقاً..اخترت فوراً..
    ..وانقطعت العلاقة المباشرة مع الحلم وغابت – تواً – من حياتي الى النهاية صورة "الشيخ المهيب المرموق" التي كانت هي نفسها صورتي كما رسمياً لي الحلم..
    -الى المجهول؟..
    -لا .سرعان ما تحول المجهول معلوماً..ذلك بفضل الحلم المنطفئ ذاته.. بفضله هو – نعم..فهو الذي اشعل في داخلي ، منذ الصغر ، لهفة الاسئلة، شهوة التطلع الى كل افق، نزعة التلفت الى كل الجهات، أي اشعل بي حافز المغامرة في طلب المعرفة حتى في اعمق غابات المجهول.. بفضل هذا الحلم الذاهب عني، أو الذاهب انا عنه بأختيار حاسم.. لكن الذهاب هنا ليس ذهاباً عن العمق والجذور، لم يكن الذهاب هنا انقطاعا عن العمق ، ولا انفصالاً عن الجذور.ز بفضل الحلم الذاهب نفسه، وجدت داخل عالمي المغلق آنذاك نافذة تنفتح على المجهول..فرأيت دربي مضيئاً وحددت هدف المسير واضحاً..
    المجهول الذي صار معلوماً، هو العلم اذن..هو العلم، نهجاً وهدفاً معاً، كيف الدخول في هذا المجهول /المعلوم؟
    كيف، وقد تحولت العلاقة مع الحلم الذاهب، أي مع طريقي الوحيد حينذاك الى العلم، تحولاً يعني انسداد هذا الطريق أمامي تلقائياً، كما هي طبائع الامور في مثل وضعي ذاك؟
    لابد من الدخول..هكذا قلت..
    سأبقى في النجف.. سأتابع الدراسة في النجف..هكذا صممت ذلك هو الاختيار الثاني الحاسم: سأبقى..سأتابع برغم كل الاسئلة المستنفرة في داخلي ضد هذا الاختيار، برغم كل الاثارات المحتملة في داخل ذاتي حيال هذا القرار، برغم كل المخارز التي ستتصوب الى خاصرتي عند كل خطوة سأتمكن من انتزاعها في مكاني ذاك من دار الهجرة: النجف..
    سأبقى.. سأتابع لكن الهدف واحد احد، هو المعرفة، هو العلم دون "المهنة"..سأبقى وأتابع الدراسة النجفية حتى استكمال مراحلها جميعاً، أي حتى بلوغ القمة لهذه الدراسة.
    وبقيت ، وتابعت بالفعل، وان حدثت خلال سني دراستي الاربع عشرة، اختراقات قصيرة وعابرة لهذا القرار/الاختيار..
    القرار/الاختيار الاول، والقرار/الاختيار الثاني، احدثا في حياتي تغيرا دخل في عمقها الاعمق:امتلكت حريتي، أي امتلكت حقي بأن اقرر اين انا حيال نفسي، واين أنا حيال"الاخرة"؟ تحررت اذن.. واذا كنت بقيت، وتابعت، فقد صرت اشعر ان بقائي ومتابعتي صادران عن قراري واختياري..واذا كنت مضيت اقرأ وأدرس الكتب والعلوم نفسها التي يقرأون ويدرسون في النجف، فقد صرت اشعر انني اقرا وأدرس بقراري واختياري.. هذا الشعور وذاك فتحا لي ابوابا للدخول في عالم أوسع للقراءة والدرس..
    في احدى لحظات الحوار مع النفس، قلت:
    -هل تحررت حقا؟
    كان الجواب واضحاً وبدهيا: نعم –اذن ، لماذا لا اتجاوز الخطوط الحمر الرادعة عن القدرات الاخرى وعن العلوم الاخرى، أي خارج القراءات والعلوم "الحلال" وحدها في عرف النظام الدراسي النجفي آنذاك؟.
    اما الاجابة عن هذا السؤال ، فكانت حاضرة جاهزة عمليا قبل السؤال..اي ان الخطوط الحمر ذاتها كنت بدأت أقتلعها –واحدا واحدا- من مكانها التقليدي الفاصل بين "المحرمات" و"المباحث" من انواع المعرفة البشرية المعروفة عندنا حتى ذاك الحين..
    لم يبق في اعتباري اذن، فاصل "يحرم" قراءة "أو معرفة" اوعلما في جانب ، و"يحلل" قراءة او معرفة او علما في جانب اخر، هذه مرحلة جديدة لتحولاتي الداخلية لكنها مرحلة تعرضت عندها –لحظة ما –لحالة من فقدان التوازن ..حالة خطرة كانت اولا انني تداركت الامر سريعاً، كاد اقتلاع "الفاصل" يحدث طغياناً للقراءات الحرة على القراءات النظامية، ولم تطل حالة الطغيان هذه، أي حالة فقدان التوازن.. بادرت لتنظيم "يوميات" القراءة والدرس لكي يتوافر لي التوازن، كان ضرورياً لي ذلك، لأنني حين اخترت البقاء في النجف ، انما اخترته لمتابعة الدراسة الخاصة بها، أي اخترت هذا اللون من المعرفة الذي تقدمه النجف.. كان قد استهواني مذ بدأت تتوضح لي معالمه التخصيصية هناك، في كل من علوم: النحو والمنطق والبلاغة واصول الفقه، والفقه الاسلامي، واستهواني- بالاخص –اسلوب التعامل بين المتعلم والمعلم والنص، وهو اسلوب يضع المتعلم فور حضوره احدى حلقات الدراسة، امام مسؤوليته الصارمة عن نفسه، أي عن شكل علاقته الاستيعابية مع المعلم ومع نص الكتاب الدراسي..اسلوب يدع المتعلم –بصورة تلقائية – متحرراً من التبعية لفكر المعلم او لفكر النص، ويوسع له فسحة الاستقلال الفكري، وحرية المناقشة الجدية مع المعلم ومع النص دون كوابح.. لابد اذن –من توفير الحالة القصوى للتوازن بين الافادة من مزايا الدراسة هذه، الافادة من ولوج ابواب المعرفة كل يوم، خارج نطاق الدراسة "النظامية" أينما وكيفما تيسر لي الولوج في أي باب من ابواب المعرفة..
    كان الوصول الى الكتب والصحف الدورية الصادرة من مختلف البلدان العربية ومن مصر ولبنان بخاصة متيسرا في النجف أي خارج "اسوار" المحيط الدراسي الديني..كان يتوافر لنا هناك ان نقرأ كتابات المفكرين والعلماء والكتاب والمبدعين من رجال القرن التاسع عشر والثلث الاول فما فوق من القرن العشرين.. وكذلك الكتابات الفكرية والعلمية والادبية المترجمة.. عن مفكرين وعلماء وادباء عالميين..مادة القراءة "المحرمة" علينا آنذاك كانت من الغزارة بحيث يضيق وقتنا عن استيعابها ، ونحاول جهدنا ان لاندع لحظة من الزمن تتسرب من ايدينا هدراً دون كسب معرفة ما.
    هذه المرحلة في حياتي هي مرحلة الخصب المعرفي.. قرأت فيها اشتاتاً من المعارف لا تنتظمها وحدة، بل يتخللها الاختلاف حتى التناقض ..كنت اقرأ الادب الرومانسي، مع الفكر العلمي ، مع الكتابات العلمية الخالصة، مع البحث الاجتماعي: نظرياً وميدانياً وذاكرتي للعهد الاول من هذه المرحلة تحتفظ باسماء اعلام وكتب ومجلات ما يزال لها وهجها الخاص عندي، برغم مسافة ما بيني وبينها الان، ذلك الوهج النفاذ الذي علمني كثيراً ومهد لي الطريق الى ماركس، ثم وصل بي الى ماركس..
    كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لاسيما منها القراءات "النهضوية" من كتابات نقولا حداد ،صاحب مجلة السيدات والرجال والباحث الاجتماعي وصاحب كتاب الاجتماع الذي رافقني وقتاً غير قصير في اواخر العشرينيات وكذلك روايات "فرح انطون" ذات النزعة الاجتماعية وكتابات إسماعيل مظهر وبحوثه التي تصدر في مجلته "العصور" المصرية المعروفة بأتجاهاتها المادية ..ثم النتاج الطليعي لشبلي شميل الذي قدم الى الفكر العربي والثقافة العربية ، اول مرة، نظرية التطور الدارونية، بكل ما يعنيه هذا النتاج من اسهام فعلي في التأسيس لمنهج للتفكير، في لغتنا وثقافاتنا ، يعتمد النظر المادي ويقوم على استيعاب أوليات القوانين الكونية لحركة تطور الطبيعة والمجتمع.
    اسماعيل مظهر، وشبلي شميل هذان هما الاصل والاساس في تحولاتي الفكرية الاولى نوعياً وجذرياً، فأثرهما الاعمق في تكويني المنهجي والنظري ، يرتبط بقراءاتي المثابرة والجادة والممتعة لهما في السنوات الاولى لعهد التحرر من كابوس "المهنة" أي ما بين عامي 1925- 1927 ولست أنسى هنا سلامة موسى واثره بي في ذلك العهد، بما كان لكتاباته الفكرية –الاجتماعية ، حينذاك من اتصال ما بالفكر الاشتراكي الطوباوي ، ومجلة "المقتطف" بما كانت تعنى به من اضفاء للطابع العلمي الغالب على مجمل ما تنشره وقتئذ، ولا غير المقتطف من المجلات ،ولا الكتب الكثيرة الاخرى التي يعسر تعدادها الان.
    قلت:كانت كلمة "الاشتراكية" تتردد كثيراً في قراءات هذه المرحلة، لكن الكلمة ظلت عندي –وقتاً ما –اشبه بـ"الطلسم" لا اعرف مدلولها العلمي ولاشيئاً من المفاهيم التي تشكل هذا المدلول..كيف تعاملت معها اذن؟
    -لم تكن كلمة "الاشتراكية" وحدها تساوي "الطلسم" عندي، كل الكلمات ذات المدلولات الفكرية والعلمية والفلسفية بدأت علاقتي بها كـ طلسمات في سنوات العهد الاولي لهذه المرحلة.. لكن العلاقة تلك لم تجد لها استقراراً عندي، فقد جعلت احاربها حتى قهرتها، ثم تحولت "الطلسمات" في ذهني الى قناديل اضاءت حياتي.. ذلك بفضل القراءات الدؤوب باصرار والحاح في محاولات الفهم والكشف.. مع تكرار المحاولات مرات من غير ان اجد سأماً أو استسلم لعارض سأم، بل كثيراً ما كنت أجد عند كل محاولة جديدة نوعاً جديداً من الغبطة والمسيرة.. هذا وحده كان طريق الوصول الى المدلول العلمي للاشتراكية، أي الى الاشتراكية العلمية، بعد ان تجاذبتني "الاشتراكيات" بمختلف ألوانها الاخرى، حتى لونها "الغابي" الباهت والزائف، لكنه طريق كان مشحوناً بالقلق والجهد البالغ، وكان طويلاً وعسيراً، ثم كان الوصول الى نقطة الهدف بدفعات متقطعة، متباعدة..
    في معظم مراحل هذا الطريق الطويل الى الاشتراكية العلمية، لم ألتق ماركس باسمه الا مرات قليلة وخاطفة.. القراءات الجاهدة والحائرة حول الاشتراكية..في سنوات العهد الاول لهذه المرحلة، كانت بعيدة عن ماركس، أي بعيدة عن اسم ماركس اولاً، وبعيدة عن اشتراكية ماركس(الماركسية) ثانيا.. كثيرا ما كان مفهوم الاشتراكية يختلط في الكتابات العربية "بالنهضوية" اختلاطاً طريفاً، بمفاهيم متغايرة أو متناقضة ، وكثيراً ما كان جوهر قضية الاشتراكية، أي المسألة الطبقية، يزوغ خلال هذه الكتابات الى خارج القضية، أو يختفي كليا، وتبتعد الكتابة –بالطبع اذن –عن واقع الحركة الاجتماعية، أي عن رأس القوانين العاملة في تطوير المجتمع، اعني قانون التناقض الطبقي والصراع الطبقي، وأغرب اشكال الاختلاط بين المفاهيم، ان تعرض مبادئ الثورة البرجوازية الفرنسية كمبادئ للثورة البروليتارية الاشتراكية..
    اول لقاء رواية "الدين والعلم والمال" لفرح انطون، وكانت الرواية هذه اقرب الى البحث "الفلسفي الاجتماعي" كما اعترف بذلك فرح نطون نفسه.
    يعالج فرح، في هذه الرواية مشكلة العلاقة الطبقية التناقضية بين العمال وأرباب العمل، وهو يرى أهمية المشكلة جيداً، ويقترح لها –على لسان ممثل العمال –حلاً لا يتناسب مع مستوى اهميتها وشموليتها، وهو الحل القائل "باشراك العمال في ربح العمل" إضافة الى تشريعات الضمان الاجتماعي على نحو ما هو متبع في البلدان الرأسمالية المتطورة.. أي ان الحل المقترح لا يمس الملكية الخاصة لوسائل الانتاج، وبرغم ذلك يبادر الممثل العمالي، خلال الحوار مع ممثل أرباب العمل، الى القول متبجحاً:
    -"هل تريدون منا فلاسفة؟ فأسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماركس..
    -"ما شاء الله؟ تستشهدون بأشد أنصاركم غلواً".. فيقول العمالي:
    -لا بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة، رأيه يناقض رأيكم في الملكية"..
    صحيح ان هذه اول مرة التقي فيها ماركس..لكن ماركس هذا، الذي التقيته عن فرح أنطون، لم استقبله بارتياح، ولم اشعر انه هو الذي سيخرجني من بلبلة المفاهيم المختلفة للاشتراكية، فماركس هذا هو –اولاً –فيلسوف منا" أي من هؤلاء العمال الذين يبتسرون –اعتباطاً- حل المشكلة الاجتماعية – الطبقية الكبرى بحيث ينحصر هذا الحل في "اشراك العمال في ربح العمل"..وهو مع ذلك –ثانيا – "من انصار العمال غلوا" وهو –ثالثاً- مع ذلك ايضا له رأي في الملكية يناقض رأي العمل..كيف تجتمع هذه التناقضات في شخص هو –الى ذلك كله- فيلسوف من الفلاسفة؟..
    برغم هذه الهواجس المقلقة، وقع في نفسي ان ماركس، هذا لابد له شأن عظيم في القضية التي يتحدثون عنها كثيراً باسم الاشتراكية لكن كيف سأصل الى صاحب هذا الشأن العظيم بصورته الحقيقية دون الصورة المضطربة هذه؟.
    بدءاً من هذا السؤال ، بدأت أدخل في العلاقة السليمة مع ماركس..
    ومن هنا بدأ ماركس يدخل حياتي وما أزال في النجف..
    لكن ماركس الماركسي، تأخر عني وصوله بضع سنين بعد اللقاء الاول، عند فرح أنطون، مع ماركس "غير الماركسي"..تأخر حتى انعقدت لي صلة خفية مع "الشيخ" حسين محمد الشبيبي (هو نفسه الشهيد الشيوعي المعروف الذي اعدمه النظام الملكي مع الشهيد الرفيق فهد في بغداد عام 1947).
    في اواخر الثلاثينيات بدأت أدخل المرحلة الدراسية الاخيرة في النجف، وفي الوقت ذاته كنت اكتب اسبوعيا لمجلة "الهاتف" النجفية (صاحبها:الكاتب القاص جعفر الخليلي) مقالا او قصة..كان هذا الحضور الادبي والفكري الاسبوعي يوسع أفق علاقاتي الادبية والفكرية الى ابعد من النجف.. لأن الهاتف كانت وقتئذ مجلة معظم المثقفين العراقيين..في هذا الافق نفسه انعقدت صلتي بـ "الشيخ" الشيوعي (حسين محمد الشبيبي).. كنت القاه في النجف، واحيانا القاه في بغداد متسللا الى مكانه السري قرب جامع "الحيدر خانة"الشهير..
    مرة سألت الشهيد الشبيبي رأيه في قضية وطنية كانت قضية الساعة في الاوساط السياسية العراقية حينذاك، فأخذ يبسط لي رأيه باستفاضة، مستشهداً خلال ذلك بمواقف ونصوص لينينية ..اذكر أنني اعترضته متسائلاً: لماذا لايستشهد بالماركسية؟قال: اللينينية هي الماركسية مطبقة على الواقع الملموس تطبيقا ابداعيا تميز به لينين في عصر الثورة الاشتراكية العلمية المتحققة على الارض بالفعل.
    منذ انعقاد هذه الصلة دخلت في صميم العلاقة الصحيحة أي العلمية مع ماركس "الماركسي".. وأخذت اقرأ العلم الماركسي، دفعة دفعة، ذات مرة دفع لي الرفيق الشهيد "الشبيبي" بنسخة من "البيان الشيوعي" على سبيل الاهداء، شرط ان اقرأها أكثر من مرة.. ولكي استحق شرف هذا الاهداء عشت مع البيان الشيوعي ، في هذه النسخة العزيزة يومين كاملين متتاليين ، ثم رجعت اليه منشرح الصدر، مفعماً بفرح المعرفة باضوائها الجديدة الكاشفة، بقيت محتفظاً بهذه النسخة من "البيان الشيوعي" بحرص شديد وباعتزاز عميق، حتى فوجئت يوماً باختفائها، فحزنت كثيرا وبقي حزني يتجدد كلما تجددت ذكرى هذا الاختفاء..
    قبل هذا حاولت الوصول الى ماركس "الماركسي" بوساطة "رأس المال" غير ان نتاج المحاولة كان ضئيلاً لأنها اعتمدت ترجمة للكتاب باسم "د. راشد البراوي" وهي اقرب ان تكون تلخيصاً غير ناجح.. بصدق وحرارة، حكاية ذلك الصراع الطويل المرهق والممتع معاً بين حلم الطفولة الذاهب وعلاقاته ونوازعه ورواسيه ، وبين المشروع المعرفي غير المحدود الذي جعلته البديل عن الحلم ذلك بقراري واختياري.. وهو المشروع الذي استمر يدفع بي، طوال اربعة عشر عاماً، من تحول فكري ونفسي الى اخر، حتى كان التحول الذي "تمظهر" اخيرا بوداع العمامة.
    كانت هذه المرحلة العمل الكادح لكسب العيش/ الكفاف.. أي انها كانت مرحلة الرؤية الى الاشياء وطبائع الاشياء من داخلها او عن قرب منها، لا الرؤية الاخرى الباحثة –كانت – في "صفاء" المجردات من خارج الاشياء وطبائع الاشياء بعيدا عنها.. صار الكدح اليومي لكسب العيش /الكفاف بمثابة السلك الموصل بي الى الرؤية من الداخل، لأنه التعامل الحي مع آلية الحياة العملية –الاجتماعية ، أو لأنه الاندماج بالفعل في دينامية الحركة التي تنتج ظاهرات الحياة العملية –الاجتماعية. في هذه المرحلة الكادحة، اصبحت القراءات اكثر ضرورة لي منها في المراحل السابقة، واصبحت ايضاً تقتضيني اختيارا متميزا ومدققا لنوع المقروءات..وها قد وضعتني طبيعة العمل (التدريس في المدارس الثانوية الخاصة) امام ضرورات جديدة على هذا المثال: لقد صرت وسط العاصمة "بغداد" ووسط النشاط المركزي للحركة الثقافية العراقية، ووسط زحام العرض والطلب حول الكتاب في "سوق السراي" حيث تحفل المكتبات التجارية بكل جديد وقديم من الكتب والمنشورات ومن المؤلفات والترجمات ووسط النماذج المتنوعة من الكتاب والمفكرين والمبدعين ووسط قضايا ومشكلات ومفاهيم مستجدة مع متغيرات الحياة الكونية والعربية والعراقية بعد انخراط البشرية بأجمعها في مشاغل الحرب العالمية الثانية..
    قراءاتي في هذه المرحلة اذن "تحولت" هي ايضاً..صار يعنيني، اكثر فأكثر ، أن اقرأ من الفكر النظري ما يكون له اتصال ، أي اتصال بمضمون الواقع القائم، أي بالمجرى العام والخاص لمسار المعركة الدائرة آنذاك، وطنياً وقومياً وأممياً ودولياً، خلال سنوات الحرب هذه.. اذن ، كان لابد من لينين، كان لابد ان أسترشد هنا بكلمة الشهيد حسين محمد الشبيبي من ان اللينينية هي الماركسية، مطبقة على الواقع الحي الملموس، وكان الواقع الحي الملموس الذي جاءت به الحرب الكونية الثانية، يحتاج أشد الحاجة الى الماركسية مطبقة بتوجيه لينيني، كان لابد لي من لينين.. فهذا وقت اللينينية ماركسيا، أي هذا وقت الماركسية بتطبيقات قائد اول ثورة اشتراكية علمية في تاريخ البشرية اطلاقاً.. هكذا تحولت قراءاتي الفكرية في هذه المرحلة..تحولت الى لينين من ندائه الشهير الى شعوب الشرق حتى الاستعمار اعلى مراحل الرأسمالية". وقد اسعدتني مصادفة رائعة، في تلك الظروف نفسها، بالاطلاع على ترجمة غير منشورة، لدى احد المثقفين الشيوعيين العراقيين لكتاب لينين: "الدولة والثورة" وكان من الطبيعي –مع ذلك- ان اضيف الى القراءات اللينينية قراءات مميزة من الفكر القومي العربي لأبرز الشخصيات المتخصصة وقتئذ بالتنظير لهذا الفكر..
    وبعد..فأين انا اذن، في مرحلة الاربعينيات من مسألة الانتماء؟.
    الحقيقة ان هذا السؤال استوقفني مرات بعد رحلة الاربعينيات أي بعد العودة الاخيرة الى وطني الاول: لبنان، وهذه أول مرة احس فيها الحاجة الى وضوح الجواب:
    -كانت مجريات حياتي الدراسية ، منذ انطفاء الحلم الاول الذي حملني الى دار الهجرة العلمية: النجف، حتى اللقاء البهي مع ماركسية لينين، او مع لينينية ماركس – كانت كل هذه المجريات تتسلسل بي- طبيعياً وبهدوء-الى الانتماء الماركسي اللينيني بشكليه او بمضمونه الفكري والعضوي..
    اما الانتماء الفكري، فلم يكن يحتاج عندي الى ارادة مباشرة، في زمن مباشر ..فهو جاءني بالارادة البطيئة الخفية، بالتراكمات المعرفية الهادئة، بالتحولات الكيانية السرية.. كان الانتماء الفكري يتكون في داخلي مع تكوين اصوله الثوابت:"الاتجاهات المادية "الهلامية" في تفكيري قبل التقائي نص ماركس او انجليز أو لينين.
    اما مسألة الانتماء العضوي (الحزبي) فهي وحدها كانت العقدة لقد تأخر عني هذا الانتماء، او تأخرت عنه.. برغم ان الناس كانوا يستعجلونني اليه، كانوا يستبقون الى تسميتي "شيوعيا" قبل ان اكون شيوعياً، سبقتني هذه التسمية الى بيروت قبل ان اعود اليها عودتي الاخيرة (9/6/1949).. فور وصولي بيروت وجدتني فيها شيوعياً خطراً، وهنا ادركت سر الاستعجال بي نحو "الشيوعية" هنا عرفت ان هؤلاء المستعجلين في بيروت، هم جماعة نوري السعيد في لبنان..كان يعنيهم جدا- كما تبين – ان اكون شيوعياً، حينذاك دفاعا عن سيدهم نوري السعيد هذا أي قصدا لافتعال "مبرر" لابعادي عن العراق قسرا قبل ان ينقضي اسبوع واحد على عودته الى كرسي رئاسة الوزراء، وقد كان الشعب العراقي نفسه قد ابعده عن الحكم والسيطرة نحو سنتين، بفضل الوثبة الوطنية المجيدة التي قامت بها جماهير الشعب العراقي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية والتقدمية في نهاية عام 1947 ، وانتصرت انتصارا باهراً باسقاطها مشروع المعاهدة المعرفة باسم "معاهدة بورت سماوث" التي كان عقدها الحكم العراقي وقتذاك مع الحكومة البريطانية ، وكان من شأن هذه المعاهدة ان تفرض على العراق قيوداً سياسية وعسكرية جديدة تتناقض مع سيادته الوطنية، ومع مصالح شعبه ومطامحه الديمقراطية والتقدمية..
    لم اكن شيوعيا بعد لكن كنت كاتباً وطنياً اكتب موقفي الوطني بصراحة وجراءة كل يوم في صحف بغداد ، لاسيما جريدة "الرأي العام" اليومية، (صاحبها شاعرنا الاكبر الجواهري)..وقد اتفق ان كتبت مقالاً بعنوان "نوري السعيد" بين العقل والعاطفة" (مجلة الحضارة)، تعليقا على تصريح له "ينصح"فيه شعب العراق ان يركن الى "العقل" بدل "العاطفة" بعد اسبوع واحد على نشر المقال عاد نوري السعيد الى الحكم، وبعد اسبوع واحد من عودته فوجئت بقرار الابعاد فوراً..
    في منتصف الاربعينيات كان انتمائي الفكري يدعوني الى الانتماء العضوي..لكن لم استطع الاجابة للدعوة وقتذاك.. لمااذ؟ هل عن خوف أو جبن ، او انتهازية؟.
    -استطيع القول الان قطعا، ان لاشيء كان، وما زال ، وسيبقى حتى النهاية بعيداً وغريباً عني، كمثل الخوف، والجبن والانتهازية ويقيني ان الجيل العراقي الذي عايشته في تلك المرحلة الحاسمة في حياتي ، يشهد لي بذلك دون تردد..
    التفكير بالانتماء العضوي لم يكن بعيداً عني و قتذاك لقد استحوذ علي وقتا ما، كهم يومي بين همومي الكبيرة لكن لم يخرج الامر عن حدود التفكير، كان يسكنني التردد ومعه الحيرة المرهقة..
    ذات مرة قلت لنفسي: كفى، ولنقطع رأس التردد والحيرة.. في اللحظة نفسها قررت ان انتمي لأحد الاحزاب العراقية غير اليسارية.. ذهبت الى صديق لي اعرف اخلاصه وصدقه، مستشيراً.
    ضحك الصديق، وصارحني:انا اعرفك وافهمك دع عنك هذا.. فضحكت وصارحته: شكراً يا صديقي العزيز..
    ثم جاءت احداث الوثبة الوطنية العراقية (نهاية عام 1947) وانخرطت في هذه الاحداث في التظاهرات الجماهيرية ، وفي النضالات السياسية ، وفي الكتابة اليومية لصحف، لقد هزتني التجربة العظيمة، وهزني دم الشهيد جعفر الجواهري ، شقيق شاعرنا الجواهري، وصاحب وحي قصيدته الشهيرة:
    اتعلم ،أم أنت لاتعلم
    بأن جراح الضحايا؟
    جاءت احداث الوثبة، وهزتني التجربة.. واكتشفت خلالها اموراً خطيرة، فقررت الانتماء، ولكن..
    جاء أمر ابعادي عن العراق من نوري السعيد ، قبل ان يصير الانتماء عضوياً بالفعل.. واذا كان هذا الابعاد القسري الغاشم قد حرمني شرف الانتماء العضوي في العراق، فانه لم يستطع ان يحرمني شرف هذا الانتماء في لبنان..
    اما هذا التحول السعيد الاخير في حياتي، فله قصة اخرى، ولنا مع هذه القصة السعيدة موعد اخر.




    (الطريق حزيران عام 1984 –عدد خاص بمئوية ماركس). 
    .......................
    12.02.2010  


    ارتبط الاديب والمفكر والفيلسوف اللبناني حسين مروة الذي اغتالته رصاصة الغدر في 18 فبراير/شباط عام 1987 بوشائج متينة مع الثقافة الروسية التي نهل من معينها الكثير من الافكار والمبادئ..المتجسدة في اعمال بيلنسكي وتشيرنيشيفسكي وبليخانوف وغير هم ،والتي وظفها في محاولاته لتقديم قراءة جديدة للتراث العربي والاسلامي.وكتب حسين مروة القصة والمقالة والنقد والبحث ونظم بعض الشعر في المراحل الاولى من ابداعه . ونشر الكثير من اعماله في الصحف العراقية ولا سيما جريدة " الرأي العام" وصاحبها شاعر العرب محمد مهدي الجواهري .وكان رحمه الله غالبا ما يأتي الى موسكو لحضور محافلها العلمية والادبية ، كما امضى فيها فترة من الزمن لدى اعداد اطروحة الدكتوراه العليا في الفلسفة في معهد الاستشراق ضمن مشروعه الكبير " النزعات المادية في الفلسفة الاسلامية" الذي لم يكمل المجلد الثالث منه بعد ان اغتالوه بكاتم الصوت لمجرد كونه صاحب فكرة حرة وداعية من اجل العدالة الانسانية والاجتماعية.

    ولد حسين مروة في في اسرة محافظة في بلدة حداثا في جنوب لبنان عام 1910 واعده والده منذ الصغر لكي يصبح من رجال الدين وحتى ألبسه العمامة والجبة مما جعله يخجل امام اقرانه الصغار. وفي عام 1924 ارسل الى الحوزة العلمية في النجف وهناك تعرف على حسين محمد الشبيبي . وقد احدث هذا التعارف تحولا في فكره ومسيرة حياته كلها عندما قرأ " البيان الشيوعي" واصبح من انصار الفكر الماركسي الذي التزم به طوال حياته وترك اثره في اعماله ودراساته في النقد الادبي والفلسفة . وكان هذا السبب في طرده من العراق وعودته الى لبنان. وصار يكتب في صحيفة "الحياة" زاوية يومية بعنوان " مع القافلة" التي نشرت لاحقا في كتاب ومن ثم أسس المجلة الثقافية " الطريق" وواصل الكتابة في الصحف العراقية والعربية بنشره العديد من الدراسات النقدية الادبية والفلسفية.وشارك في معظم مؤتمرات الادباء العرب حيث قدم العديد من الدراسات والبحوث. كما شارك بنشاط في منظمة كتاب آسيا وافريقيا بصفته عضو الهيئة الادارية لاتحاد الكتاب اللبنانيين. وانضم الى الحزب الشيوعي اللبناني وانتخب عضوا في لجنة الحزب المركزية. ومنح حسين مروة جائزة لوتس الادبية العالميةعام 1980 ووسام الاداب والفنون لجمهورية اليمن الديمقراطية .

    وفسر حسين مروة سبب اهتمامه بالنقد الادبي بأن النقد المنهجي غائب عن الساحة الادبية العربية. وبرأيه ان النقد الادبي يجب ان يكون مؤسسا على نظرية نقدية تعتمد فكرة معينة في فهم الادب وفي اكتشاف القيم الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الادبي مع مراعاة حركة تطور المجتمع. وكانت حصيلة دراساته نشر كتابيه " قضايا ادبية" و" دراسات نقدية". وقال الكاتب الروائي السوري حنا مينه عن عمل حسين مروة كناقد : " انه حين يتصدى للنقد الادبي فأنه لا يتقحم ميدانه ليقال عنه انه ناقد . انه لا يمتهن النقد كأداة تعبيرية تترجم عن ذاته وما يريد ان يقول. النقد لديه عملية ابداع ، كشف تقويم ، ترشيد وتوجيه. وهو لا يأتي النقد قارئا للكتب ، معرفا بها ، او متذوقا لها بمزاج شخصي ، او متعصبا سلفا ، او متزمتا ، او متخبطا بين المدارس النقدية ، وبين مناهج النقد ، دون قدرة على امتلاك اي منها، دون قدرة على امتلاك اي منها ، وبغير اهلية لتطبيقه على الاثر المنقود. انه صاحب مهمة. ويدرك ان مهمته جليلة وينهض بها. ويعرف ان الثقافة الواسعة العميقة الشاملة ، هي المؤهل الاساسي للناقد" فيتسلح بثقافة .. لم تتوفر لناقد فرد من العرب الحديثين غيره".

    وفي الاعوام الاخيرة من حياته ركز حسين مروة اهتمامه على دراسة التراث العربي الاسلامي وحاول تقديم رؤية جديدة ماركسية للكثير من الاحداث في التاريخ العربي والاسلامي بغية اعتمادها في مشروع نهضوي جديد للمجتمع العربي. ونشر كتابه " دراسات في الاسلام" مع باحثين آخرين وبحثه " النزعات المادية في الفلسفة العربية - الاسلامية" حيث اعطى تفسيرا للدور التقدمي لبعض الحركات الاسلامية. وفي الكتاب الاخير المؤلف من حوالي ألفي صفحة يقدم حسين مروة رؤية جريئة لم تطرح من قبل في البحوث التراثية العربية لدى تناول التراث الفكري والفلسفي العربي. ويحلل المؤلف خط تطور المجتمع العربي الاسلامي في العصور الوسطى. ويعتبر الكتاب اول مسح معرفي للخطوات والنقلات التاريخية للعرب يتفاعل خلالها التطور الاجتماعي مع التطور الفكري ، منذ فترة الجاهلية حتى القرن الرابع الهجري.

    وقد يختلف الباحثون في تقييم دور حسين مروة واسلوبه في تجديد الرؤية الى الماضي بمستجدات الحاضر ، وتحرير هذه الرؤية من جمودها السلطوي والعقائدي، لكن اسهامات هذا الكاتب والناقد والمفكر والفيلسوف تعتبر تواصلا لا يقدر بثمن في الدراسات التراثية على أساس علمي ومنهجي بعيد عن الجمود والتقرير.


    - من سلسلة مقالات" مبدعون عرب في روسيا" -
    عن موقع روسيا اليوم
    ....................
     
     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق