فجر
الأمس، استيقظ الفلسطينيون على أخبار اشتباك ناري دام لساعتين في إحدى
مناطق الضفة الغربية مع قوة إسرائيلية خاصة، وانتهى باستشهاد الفلسطيني
الذي خاض الاشتباك.
في اللحظات الأولى، التي لم يكن قد
كُشف فيها بعد عن هوية المستَهدف، بدا التفاعل العام مع الأمر «عاديًا»، أو
غير خارج عن المألوف، السائد في التعاطي مع حوادث من هذا القبيل. ولكن
شيئًا من التوتر سرعان ما بدأ يتسلل إلى نبرة من يتناقلون الخبر، شيئًا ما
يخفيه البعض عن الآخر، همهمات قلقة وشكوك تتوسل باضطراب ما يبددها، ليأتي
الخبر الصاعقة: «يديعوت أحرنوت» تعلن أن الفلسطيني المستهدف هو باسل
الأعرج.
صور قليلة تظهر فيها مجموعة من الكتب المغمسة
بالدم، بندقية أم 16، بندقية كارلو، فوارغ الطلقات التي رشها باسل على
القوة الإسرائيلية التي هاجمته، وفردة حذاء رياضي أزرق، أكدت الخبر.
في
التفاصيل الإضافية يُستدعى والد باسل للتحقق من الجثة. يحذره الضابط من
كون هيئة ولده، بعد أن مزقتها الطلقات والشظايا، لن تشبه الهيئة التي
اعتادها عليه. يرد الأب بعد معاينته جثمان ابنه: «الله يرضى عليه! عمري ما
شفته أحلى من اليوم».
وهكذا، تستكمل التفاصيل المرافقة
لمشهد الاستشهاد ما دشنته سيرة باسل في رسم لوحة «الشهيد الكامل» أو «البطل
المطلق»؛ فلسطيني في عمر الورود (31 عامًا)، مثقف وكاتب، ناشط سياسي يزخر
الإنترنت بصوره، وهو يُضرب تارة من عسكر السلطة في رام الله وتارة أخرى من
الجنود الإسرائيليين، مخطوفًا فمعتقلًا ثم مطارَدًا يجوب الجيش الإسرائيلي
حواري وشوارع رام الله بحثًا عنه، وأخيرًا مقاتلًا يستشهد ورشاشه بيده.
صورة تتكثف فيها الرمزية إلى حدها الأقصى، لتشقى معها العين والروح في
السعي للإحاطة بعناصرها.
أمام فائض الشاعرية هذا ترتبك كل
محاولات التأبين، فأي كلام مكتوب أو منطوق بإمكانه مناظرة مشهد يختزن هذا
الكم الهائل من المجاز المادي الملموس!؟
الفجيعة التي
اعترت رفاق ومحبي باسل، وبخاصة الفلسطينيين منهم، في فلسطين وخارجها، وإن
تسترت بحدث الاستشهاد وما رافقه من تفاصيل ملحمية، كانت تواري في ثناياها
وجعًا نكأه دم باسل، فاستشهاده جرى ضمن سياق مواز منفصل تمامًا عن السياق
العام المنحط والمثقل بالهزيمة والعجز الذي يحياه الفلسطينيون اليوم.
بين
السياقين تتبدى لهؤلاء الفجوة الشاسعة التي تفصل بين بؤس واقعهم المعيش
ورايات التعاسة المحيطة به من كل جانب، وبين واقع آخر مجيد رحب مفعم
بالحرية والرضا هم بعيدون كل البعد عنه، استطاع باسل التسلل من بينهم لينفذ
إليه، مدشنًا بنفسه نموذجه الخاص ليرقب من عَلٍ كيف يتضاءل أمامه حجم كل
شيء ليستحيل إلى مسخ؛ الاحتلال يتحول إلى قطيع كلاب مسعورة يختزل كل معاني
الشر والدناءة وهو يقتل إنسانًا بهذا القدر من النبل، والسلطة وتقاعسها و
تنسيقها الأمني تمسي أحقر حتى من أن تُستدعى كي تُشتم في حضرة شهادته،
ونصوص المثقفين تحتاج لمن يرثيها وهي ترثي من قال ذات مرة: «بدك تصير مثقف،
بدك تصير مثقف مشتبك. ما بدك تشتبك، لا منك ولا من ثقافتك!»
ولكن
الأهم من ذلك كله بالنسبة لأقران باسل، هو أن السقف الذي حددوه لفعلهم
السياسي بدا اليوم منخفضًا إلى حد لا يطال علو فردة حذائه الزرقاء، وأن
سنوات ضوئية تفصل «نشاطهم» السياسي عن اللحاق بما أتى به.
زاد
من مرارتهم أيضًا أنه مضى إلى النهاية، بل إلى حدود الإثبات بالدم لصحة
سرديته النقدية لظاهرة نشطاء النخبة، الذين يجولون بحواسيبهم التي تحمل
شعار «التفاحة» على المؤتمرات والورش الممولة، منذ أن كان يجوب شوارع وحقول
الضفة الغربية ليجمع حوله الطلاب والمزارعين محاضرًا فيهم عن سبل التحرير
وتحقيق العدالة الاجتماعية وعن بطولات الفدائيين العرب الأوائل في مواجهة
الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، كفيلسوف منفصل عن زمانه خرج لتوه من كتاب
يروي قصة متمرد على ملك جائر في القرون الوسطى، أو وهو يظهر على شاشة
التلفاز ليرد على مذيع سلطوي يحذره من كون ما ينادي به يمثل خرقًا
للاتفاقات الدولية، بأنه يريد فعلًا خرقها واستعادة فلسطين من بحرها إلى
نهرها، وفوقها الجولان، لأنه فلاح و«الفلاحون طماعون بطبعهم»!
قبل
أكثر من عام، في الفترة التي سبقت اختفاءه، وفي آخر تواصل مع الشهيد باسل
الأعرج، أرسل الأخير لي نصًا عن الشهيد الجزائري علي لابوانت (1930-1957).
أغالب
قشعريرة تسري في أوصالي كلما استذكرت الأمر؛ لا شك أن التشابه في مصائر كل
من لابوانت وباسل، من بعده بسبعين عامًا، كفيل ببث الرهبة؛ كلاهما نُسف
وهو كامن في سقيفة مخبأة بعد نفاذ ذخيرته، إلى حد تبدو معه أي تفسيرات تعزي
الأمر إلى الصدفة أقل عقلانية من تفسير آخر لا مناص منه: باسل رأى مصيره
منذ البداية وأشرف على تجهيز فصله الختامي بنفسه، وإلا فمن أين أتى كل هذا
الموت المتقن، والذي لشدة إتقانه استحال إلى حياة يبثها فيمن حوله؟ كيف
يكون الفلسطينيون موتى مهزومين يتسرب الأمل من بين أصابعهم، ولا يزال فيهم
من هو مثل باسل الأعرج؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق