الجمعة، 18 ديسمبر 2020
الاثنين، 14 ديسمبر 2020
بوخبزة .. غيفارا العرب الذي حملته فلسطين لمواجهة اليانكي الأمريكي
بوخبزة .. غيفارا العرب الذي حملته فلسطين لمواجهة اليانكي الأمريكي
عن موقع هسبريس
عبد الإله المنصوري الثلاثاء 30 أكتوبر 2018 -
“أنا يا أخي… آمنت بالشعب المُضيَّع والمُكبَّل..
فحملت رشاشي، لتحمل بَعدنا الأجيال مِنجل..
وجعلت من جُرحي والدِّما للسهل والوديان جدول”.
(من الأناشيد الأولى لحركة فتح)
توطئة:
تعرفتُ على هذا الاسم منذ حوالي عشرين سنة، لكني لم أجد طريقا للوصول إلى معرفة سيرته العطرة إلا بعد مجهودات مُضنية بذلتها حتى أصل إلى المصادر المباشرة لاستخلاص معطيات عن هذا البطل الاستثنائي الذي يختزل في مسيرته آمال أجيال من الشباب وأشواقها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إننا أمام قصة مثيرة للاهتمام تلك التي تحكيها تجربة هذا المناضل المغربي الشاب الذي التحق بصفوف الثورة الفلسطينية (في كل من سوريا ولبنان) بعد الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982، حيث تلقى دورات تدريب عسكرية مكثفة هناك، قبل اشتغاله في بلدان كثيرة طبيبا في إحدى المنظمات الإنسانية الدولية، لينتهي به المطاف شهيدا في صفوف الثورة السلفادورية التي كانت واحدة من أشرس الجبهات في مواجهة اليانكي الأمريكي الذي حاول تعويض هزيمته النكراء في فيتنام منتصف سبعينيات القرن الماضي، بتكثيف العدوان على شعوب أمريكا الوسطى والجنوبية متطلعا إلى أن يجعل منها حديقته الخلفية. إنها قصة الطبيب الشاب الدكتور لسان الدين بوخبزة، التي انطلقت منذ ميلاده بتطوان وانتهت في إحدى ضواحي عاصمة السلفادور مطلع سنة 1987 وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
الأسرة والنشأة:
كان ميلاد الشهيد لسان الدين يوم 13 شتنبر 1956، ليكون الابن البكر في أسرة من أربعة أبناء (لسان الدين، إجلال، خليل ورفيق)، حيث كان أبوه أحد خريجي جامعة القرويين الذين تولوا مهنة القضاء ضمن الأفواج الأولى لبلد يبحث عن بناء مؤسساته بعيدا عن الهيمنة الاستعمارية، ليرسم واحدة من السير النظيفة في هذه المهنة التي قدم فيها نموذجا للنزاهة ونظافة اليد، حتى تقاعده عضوا في المجلس الأعلى للقضاء. في حين كانت أمّه ربة بيت متعلمة، وهي حالة قليلة حينها في ظل أجواء كانت تعاني فيها المرأة من تهميش وتجهيل كبيرين.
التحق الطفل لسان الدين أولا بالمدرسة الابتدائية بتطوان، حيث كان يتلمس خطواته الأولى في التعليم لحظة رحيل واحد من ملهميه الكبار، يتعلق الأمر برائد حرب التحرير الشعبية الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي. وبعد حركة تنقل واكبت مكان عمل الأب بين تازة والرباط وقبلهما شفشاون والناظور، استقر المُقام بالأسرة في مدينة القصر الكبير حيث أكمل لسان الدين تعليمه الابتدائي هناك بالمدرسة المركزية (أصبحت تسمى ابن خلدون فيما بعد)، “إذ انتبه الأساتذة إلى ذكاء الطفل لسان، فقرروا أن ينتقل مباشرة إلى الفصل الموالي بحكم ارتفاع مستواه؛ وهو ما جعله يربح سنة دراسية كاملة” يقول الأستاذ عبد السلام بوخبزة متذكرا سيرة ولده.
(الأستاذ عبد السلام بوخبزة)
كل ذلك في أجواء طغت عليها النضالات والأنشطة الثقافية والسياسية والنقابية، حيث كانت القصر الكبير حينها واحدة من المواقع التي تغلي بالنضال السياسي والنشاط الثقافي المواكب. يتحدث أحد مجايلي الشهيد لسان الدين، (وكان يصغره بعام واحد)، عن حالة حركة كانت تعرفها المدرسة الابتدائية التي درس فيها الشهيد حينها (المدرسة المركزية)، إذ على الرغم من أن سن التلاميذ كان صغيرا، فإن ذاكرتهم لا تنسى كيف كان الأستاذ المهدي الريسوني يأتي بجهاز الراديو معه إلى داخل القسم ويأخذ جزءا من الوقت لكي يتابع أخبار نكسة يونيو 1967، وهو متحمس ومنفعل مع أحداث الوطن العربي الذي كان يعرف مدا قوميا وتحرريا كبيرا.
وفي أجواء القمع الشديد الذي كان يعرفه المغرب حينها مع المحاكمات السياسية التي كانت تستهدف مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عرفت القصر الكبير حدثا ثقافيا كبيرا تمثل في تأسيس “جمعية شعلة الفكر” التي كان أول نشاط لها ندوة كبرى تحت عنوان: “إحياء ذكرى أبي القاسم الشابي شاعر وحدة المغرب العربي”، وحضرها جمهور كبير يتقدمهم تلامذة الثانوية المحمدية ومعهد التعليم الأصيل، ثم جاء اندلاع انتفاضة 23 مارس 1965 ليخرج تلاميذ الثانوية المحمدية ومعهد وادي المخازن للتعليم الأصيل تضامنا مع النقابة الوطنية للتلاميذ في الدار البيضاء التي تعرض فيها التلاميذ لعمليات قتل فظيعة واعتقالات ممنهجة؛ وهو ما أدى إلى هجوم قوات الأمن على المؤسستين وإحراق جزء كبير منهما وتكسير ما فيهما من تجهيزات. في ظل هذه الأجواء، انتقل الشهيد لسان الدين للثانوية المحمدية الشهيرة لإتمام تعليمه الإعدادي.
وبمناسبة تلك الأحداث، يحكي الأستاذ عبد القادر الحضري (نائب رئيس مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة حاليا، وكان حينها مسؤولا عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في المدينة) قصة عن نزاهة القاضي عبد السلام بوخبزة، حيث اعتقلت قوات الأمن حينها المناضل محمد الهواري الأستاذ حينها في الثانوية المحمدية (يشتغل حاليا محاميا في هيئة طنجة)، وتم تقديمه مع ملف ثقيل للمحاكمة ليأمر الأستاذ عبد السلام بوخبزة بالإفراج عنه في أول جلسة مؤكدا على براءته.
(التلميذ لسان الدين)
وبعد انتقال الأب من القصر الكبير إلى طنجة، أكمل الشهيد لسان الدين دراسته في إعدادية ابن بطوطة، وبعدها حصل على الباكالوريا في ثانوية جابر بن حيان في تطوان، الثانوية التي كان أول من درس فيها الفلسفة بعد تعريبها والتخلي عن أساتذتها الإسبان، هو الأستاذ أحمد المرابط بعد عودته من القاهرة عقب رحيل الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقد كان واحدا من الشباب المقربين من دائرته.
وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا بتفوق، لم يتردد الشهيد لسان الدين في الالتحاق بكلية الطب بالرباط، تحقيقا لحلم إنساني كان يراوده، حيث سيبدأ مسارا جديدا هناك.
تستحضر الحاجة “فامة الطْنِيبَر”، أم لسان الدين، ذكرياتها مع ابنها الشهيد قائلة: “كان رحمه الله ذا طبع جميل، يمتلك حسا إنسانيا عاليا، وعطفا على كل الناس؛ وفي مقدمتهم الفقراء والمحرومون. ما زلت أتذكر كيف كان يصحب معه ألبسة متنوعة وقطعا من الشوكولاته، ليسلمها للمرضى من نزلاء المستشفيات، أو لبعض مرافقيهم من الأطفال”.
هل كان يحدثكم عن نشاطاته للا فامة؟ أخاطب الحاجة متسائلا، فتجيبني أنه لم يكن يخبرنا بأي شيء. وهو الأمر نفسه الذي يؤكده لي مصدر مقرب من الأسرة قائلا: “حين التحق لسان الدين بكلية الطب بالرباط أصبح احتكاكه بالأسرة قليلا، بحكم انتقاله للسكن مع زملائه الطلبة ومغادرته بيت الأسرة. وكانت الأسرة تعرف بعض توجهاته واهتماماته لحظة مناقشته مع والده حول بعض الأفكار والقضايا التي كانت مطروحة حينها على الساحة الفكرية والسياسية.. لأن لسان الدين كان معروفا بكثرة المطالعة”.
لكن والدته ما زالت تستذكر بعض قفشاتها معه، حين كانت تسأله عن شَعره الكثيف وعدم القيام بحلقه وترتيبه، وقد كان موضة عند الكثيرين من أبناء جيله، فكان يجيبها بأن لا وقت لديه للذهاب إلى الحلاق، لذا كانت تقوم بترتيبه له أحيانا في البيت.
“كان ابني خفيف الظل، هادئ الطبع، صاحب قلب مرهف بالحنان مقارنة بإخوته الآخرين. مثلما كان كثير التفكير والتأمل.. لا تهمه المظاهر، بقدر ما كانت تشغله آلام الناس وحاجاتهم. لم يكن يعيش من أجل نفسه، لقد كان باختصار يفكر في الآخرين كثيرا”، تستطرد الحاجة فامة (تصغير لفاطمة) وهي تتذكر ابنها الشهيد، وعَبرات من الدمع تخنق صوتها الهادئ.
المرحلة الطلابية وتبلور الوعي:
كانت مرحلة الحياة الجامعية مرحلة تطور نوعي في الرؤية الفكرية والسياسية للشاب لسان الدين القادم إلى العاصمة الرباط من مدينة عريقة في الشمال هي تطوان. كانت الأجواء العامة في البلاد تعرف أزمة حادة؛ انقلابان عسكريان خلخلا بنية الحُكم، وانتفاضة مسلحة واجهها النظام بقسوة شديدة، تلتها إعدامات بالجملة لخيرة مناضلي التنظيم السري التابع للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يقوده المجاهد محمد الفقيه البصري؛ الشهداء عمر دهكون ومحمود بنونة ورفاقهما الذين أعدموا ذات عيد أضحى في مشهد دموي مروع. أما المشهد الطلابي فلم يكن بعيدا عن تلك الأجواء؛ اعتقال رئيس المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب مع مجموعة من المؤتمرين والمناضلين خاصة من “الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين”.
“لم يكن عند الشهيد أي انتماء تنظيمي أو حزبي، لم تكن له أي علاقة تنظيمية لا مع تنظيم “إلى الأمام” ولا تنظيم “23 مارس”، نشاطه كان فقط داخل إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”. يؤكد رفيق دربه الدكتور نور الدين دحان.
بعد اعتقال قيادة الاتحاد الطلابي كلها (باستثناء عبد العزيز المنبهي الذي استطاع الخروج من المغرب)، كانت قد بدأت تجربة التنظيم القاعدي في التبلور، بعد نجاح تجربة إسقاط معركة “الإصلاح الجامعي” المرتبطة بقرار وزير التعليم العالي حينها بفرض “تعاضديات إدارية” لتمثيل الطلبة في الموسم 75/76 حيث لعبت تجربة المجالس القاعدية السرية التي أطرت جل معارك تلك المرحلة، إلى جانب بعض الجمعيات الطلابية داخل المعاهد والمدارس التي لم تتعرض للحظر.
وبعد نجاح تلك التجربة، بدأت في التطور استعدادا لعقد المؤتمر الوطني الـ16 على أساس برنامج نضالي مبني على مكتسبات المؤتمر السابق، مع إبداع هيكلة وصفت بالهيكلة “الديمقراطية القاعدية”، تكون قادرة على استيعاب استراتيجية القمع الذي شنته أجهزة الدولة على المنظمة في مؤتمرها السابق، خاصة بعد رفع الحظر عن المنظمة يوم 9 نونبر 1978 بسبب الأزمة التي كان يعرفها النظام ومحاولة إنجاح المسلسل الانتخابي.
كان الشهيد لسان الدين حينها من أبرز المناضلين الذين أسهموا في بناء تجربة الطلبة القاعديين؛ حيث حصلت حركة داخل أوطم هي “الحركة القاعدية” باعتبارها شكلا من أشكال التنظيم الجديد للحركة الطلابية لتجاوز قدرة النظام على اعتقال قيادات الحركة مثلما فعل مع قيادة المؤتمر الخامس عشر. “هكذا مثلا في تجربة كلية الطب بالرباط كان هناك 256 طالبا في هذا الموقع فقط، وكان لسان الدين من المناضلين في الخلف، ولم يسبق له أن أخذ الكلمة؛ لكنه كان رجل تنظيم وتنظير لعدد كبير من المبادرات”، يؤكد الدكتور دحان.
لقد كانت للشهيد بوخبزة مساهمة كبيرة في تلك المرحلة التي عرفت تصاعدا في النضال الطلابي ومطالبه السياسية الداعية إلى إصلاحات ديمقراطية حقيقية تنهي ملف الاعتقال السياسي بشكل كامل (يوم الطالب المعتقل يوم 24 يناير)، مثلما ارتبطت بالدعوة إلى المساندة الفعلية للثورة الفلسطينية عبر الإضراب الشهير ليوم 26 مارس احتجاجا على تطبيع العلاقات بين النظام المصري وكيان الإرهاب الصهيوني بعد اتفاقية الاستسلام في كامب ديفيد حينها.
ومثلما كان الشهيد متفوقا في نضاله وتواضعه، حيث كان يتحرك بعيدا عن أضواء الذاتية الحارقة، احتفظ بتفوقه الدراسي يراكم نجاحه السنة تلو الأخرى. تماما مثلما احتفظ بعمقه الإنساني في الاهتمام بالفئات الشعبية الفقيرة والمحتاجة، رفعا لوعيها ومساعدة لها على النهوض. حتى أن تدريب نهاية التكوين في الكلية لم يكن منفصلا عن هذه الهموم؛ لذا قرر أن يكون تدريبه العيادي في مدينة العرائش التي كان يتصور أنه يستطيع أن يقدم فيها ما لا يمكن تقديمه في مدن كبرى مثل البيضاء والرباط.
يحكي رفيقه الدكتور نور الدين كيف أن الشهيد لسان الدين “كان كثير الارتباط بالبحر والبحارة، لذا قرر أن يكون تدريبه بالعرائش ما دام أنه يستطيع أن يقدم شيئا. لذا رسم في ستة أشهر من مُقامه هناك ما لم يرسمه الأطباء فيها لسنوات؛ كان يعطي نموذجا في الاشتغال بعمله الدؤوب ليل نهار؛ مساهما في معالجة المرضى نهارا ومعتكفا ليلا لقراءة الكتب التي كان يتكلم عما تحمله من قيم، ليس بهدف تعبوي ولكن تجسيدا لعمله النبيل، لأنه كان شديد الحرص على عدم الخلط بين الأمور”. ليُسقط في تلك التجربة ما كان يحمله الناس من صور نمطية عن الطبيب، باعتباره كائنا متعاليا وبعيدا عن الناس، فكان يجلس في المقاهي والمطاعم الشعبية ويتواصل مع الناس بروح مرحة لم يعهدوها في قرنائه من قبل، مما أكسبه محبة الناس وثقتهم بلا حدود.
(نور الدين مع الشهيد لسان الدين)
الرحلة في اتجاه أوروبا:
بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الطب العام، وبعد فترة انتظار ليست بالطويلة، شد الرحال في اتجاه أوروبا لاستكمال دراساته المتخصصة، ولفتح آفاق أخرى أمام تطلعاته الفكرية والإنسانية.
كانت البداية بسويسرا، ثم فرنسا التي قضى فيهما المدة الأطول أثناء وجوده في أوروبا، حيث اشتغل طبيبا في مجموعة من المستشفيات هناك؛ لكن حركته شملت أقطارا أوروبية كثيرة مثل إسبانيا، بلجيكا، هولندا واليونان… غير أن الحدث الأبرز في هذه الرحلة لقاؤه بمواطنة سويسرية كانت نشيطة في مجال الدفاع عن السلام، وانخراطه في منظمة إنسانية دولية هي منظمة أطباء العالم، ثم قضاؤه تجربة في صفوف الثورة الفلسطينية في سوريا ولبنان.
اللقاء مع ساندرا: لم يكن لقاء لسان الدين مع ساندرا لقاء مع إنسان عادي، بل كان بالنسبة إليه التقاء مع إنسان بمواصفات خاصة؛ كانت ساندرا أوستيت OSTET) (SANDRA وهي من أبّ إيطالي وأم سويسرية، شابة مفعمة بالحيوية والحركة، ومناضلة نشيطة في مجال الدفاع عن السلام ومناهضة الحروب. لتجمعهما علاقة رائعة، حيث إنها لعبت دورا رئيسيا في حياته، مثلما لعب دورا رئيسيا في حياتها. وهكذا، أسهمت ساندرا في إدخال لسان الدين إلى منتديات الأنشطة المرتبطة بالنضال الأممي في نصرة الشعوب التي تعاني ويلات الاستعمار والتدخل الامبريالي خاصة في أمريكا الوسطى والجنوبية؛ وهو ما سمح له بتجسيد رؤيته التي شكلها عبر مطالعاته الكثيرة طيلة مرحلته الطلابية.
وعلى الرغم من حبهما الشديد وعلاقتهما الإنسانية الراقية، فقد اختار مغادرة سويسرا للمساهمة في تحقيق حلمه… وسنة واحدة بعد سفره، أصيبت ساندرا بالسرطان، لترسل رسالة إلى صديقه نور الدين، الذي أوصلها إلى لسان الدين في السلفادور، لكن القدَر لم يمهل ساندرا إلا وقتا قليلا حتى غادرت هذا العالم. وإثر ذلك، أبلغ نور الدين رفيقه بوفاتها. وقد أثر خبر الرحيل المفجع في لسان الدين بشكل كبير، جعلت مُحَيّاه يبدو حزينا، حتى أن رفاقه في السالفادور لاحظوا ذلك. كان ذلك قبل سنة من استشهاد لسان الدين هناك.
(ساندرا مع نور الدين)
انخراطه في “منظمة أطباء العالم”: لم يكن الشهيد لسان الدين صاحب رؤية ثورية لتغيير العالم فحسب، بل كان حامل رسالة إنسانية يتطلع من خلالها إلى تخفيف الآلام عن المضطهدين والمحتاجين. لذا، كان بحثه عن إطار لتجسيد هذه الرؤية الإنسانية واحدا من هواجسه المواكبة لحركته؛ وهو الإطار الذي سيجده في منظمة طبية ذات رسالة إنسانية كانت قد تأسست للتو في فرنسا تحت مسمى “منظمة أطباء العالم” (Médecins du monde)، التي كانت منظمة ذات نفَس تقدمي يحمل رسالة تحررية، ولم تكن ذات نفَس إنسانوي ضيق مثل “أطباء بلا حدود” التي كانت ذات نفس يميني، يرفض انخراط كل من لهم انتماء سياسي وترغب في مشاريع تصب في اتجاه معين.. وهكذا، تم بناء إطار بديل لمهنيي الصحة المتطوعين لتقديم المساعدة الإنسانية للسكان المعرضين للخطر في جميع أنحاء العالم. وكانت المنظمة قد تأسست من على أيدي مجموعة من الأطباء الذين خرج معظمهم عن منظمة “أطباء بلا حدود” بقيادة بيرنار كوشنير (وزير الصحة والخارجية في أكثر من حكومة فرنسية فيما بعد، عقب تخليه عن الشعارات التقدمية التي حملها طيلة ثلاثة عقود). وكان سبب الانشقاق هو تخلي منظمة أطباء بلا حدود عن أحد أهم مبادئها المرتبط بالشهادة حول الفظائع التي يشاهدها أعضاؤها وجعلها معروفة أمام الرأي العام، إذ لا حياد في فضح الجرائم ومرتكبيها في الحروب والأزمات.
لذا، وجد الشهيد لسان الدين ضالته في هذه التجربة التي يتحدث عنها في إحدى رسائله إلى أسرته قائلا: “وجدت فرصة ثمينة لأفعل ما كنت أتمناه، وهو أن أعمل في أقطار مختلفة من العالم. سأفعل ذلك مع منظمة طبية فرنسية ذات أهداف إنسانية (كالصليب الأحمر الدولي).. من الناحية الفكرية، يمكنني أن أستفيد كثيرا، لأن السفر ومعرفة شعوب وحضارات مختلفة دائما كانت أمنيتي، ولا يمكن إلا أن تزيد الفرد إغناء… ومن الناحية الإنسانية، يمكنني أن أستفيد لأنني سأربط علاقات مع أطباء ذوي تجربة طويلة في هذا الميدان، ويمكنني أن أفيد لأن الرحلات تكون في غالب الأحيان إلى الأماكن الأكثر احتياجا للمعونة الطبية”.
تجربته في صفوف الثورة الفلسطينية: شكلت القضية الفلسطينية مركز وعي الشهيد منذ بواكيره الأولى، حيث كان يعتبر أن أبرز معركة ضد الإمبريالية كانت تخاض على أرض الوطن العربي هناك في المشرق، خاصة بعد هزيمة المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وسقوط المشروع الاستعماري الأمريكي في الهند الصينية عقب هزيمتها المنكرة في فيتنام؛ وهو ما جعل الإمبريالية الأمريكية تركز وجودها العدواني في منطقتين أساسيتين حينها؛ في المشرق العربي عبر دعم الكيان الصهيوني أداتها الوظيفية هناك، وفي أمريكا الوسطى والجنوبية التي تعتبرها قاعدتها الخلفية التي ينبغي تحصينها، خاصة بعد نجاح الثورة الكوبية على مرمى حجر من شواطئ مدينة ميامي الأمريكية. وهو الوعي الذي جعل شابا مثل لسان الدين المولود شهرا ونصف قبل العدوان الثلاثي على مصر أواخر أكتوبر 1956، الذي كان عدوانا من أجل تحطيم مصر وتثبيت تفوق المشروع الصهيوني أمام أي مشروع للتحرر العربي حينها. لذا، كانت المساهمة في نشر هذا الوعي، سواء أثناء مساهمته في إطار التجربة القاعدية لإعادة بناء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أو أثناء لقاءاته مع أفواج المناضلين الأمميين في اللقاءات التي حضرها في أقطار أوروبية مختلفة، كانت فلسطين حاضرة كقضية. وبحكم وجوده في الديار الأوروبية، كانت الفرصة مواتية له للمشاركة في تجربة ميدانية هناك، إذ بعد حصول الغزو الصهيوني للبنان الذي أسقط عاصمة عربية ثانية هي بيروت، كان الشهيد ياسر عرفات قد وجه نداء إلى كل الشباب العربي وإلى كل المناضلين الأمميين للالتحاق بالجبهة دفاعا عن الثورة الفلسطينية، وهو النداء الذي خلّف حركة تضامن واسعة عبر العالم، جعل حركة التضامن مع فلسطين أكثر امتدادا.
في أجواء هذا السياق التحق الشهيد لسان الدين بقواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سوريا ولبنان لتلقي دورات تدريب مكثفة أفادته كثيرا في مهماته الإنسانية والنضالية اللاحقة. لقد كانت الجبهة الشعبية حينها مركز ثقل تعاطف عربي وأممي واسع بحكم المشروع التحرري الذي طرحته، وبحكم فدائية عناصرها ونجاح ضرباتها الموجعة في مواجهة العدو، وبفضل رؤيتها العميقة للصراع العربي-الصهيوني باعتباره صراعا ضد كيان وظيفي هو الكيان الصهيوني، يتناوب في تقديم خدماته لمراكز القرار الإمبريالي المختلفة، لذا ينبغي مواجهته في إطار قومي وأممي يجعل تلك المعركة جزءا من النضال الأممي الواسع ضد الإمبريالية أينما حلت وارتحلت، وتوجيه الضربات إليها في كل مواضع النضال لإضعافها وتخفيف الضغط على المواقع الأخرى.
كانت دورات الشهيد لسان الدين التدريبية في قاعدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت في منطقة حوران جنوب سوريا، وبعدها في قواعد عسكرية مختلفة في لبنان في البقاع وصيدا وبيروت.
يؤكد لي الرفيق أبو علي، أحد مسؤولي الجبهة الشعبية حينها في لبنان، أن عدد الملتحقين من المناضلين العرب والأمميين كان بالمئات، وكنا نضطر لأسباب أمنية أن نحرق هوياتهم حتى لا تقع في أيدي العدو الصهيوني الذي سيوصلها حتما إلى أجهزة مخابرات الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المتطوعون أو تعريضهم للاغتيال حتى من لدن الموساد الإسرائيلي بعد عودتهم من مهامهم.
تجربة سبقه إليها، مع فارق، الشهيد الحسين بن يحيى الطنجاوي ابن مدينته تطوان الذي لم يكن بيت أسرته يبعد عن بيته إلا بمئات الأمتار، حتى ارتقى شهيدا في إحدى العمليات الفدائية ضد جيش الاحتلال الصهيوني يوم 28/ 11 /1974، مما خلّف أثرا كبيرا في مدينة تطوان وعموم المغرب.
هناك في قلب الجبهة استوعب لسان الدين أكثر معنى المساهمة في إطار أممي واسع، لتوفير حماية للمقاومة عبر فتح جبهة واسعة في مواجهة الإمبريالية على الصعيد الأممي. ليعود إلى أوروبا مفعما بروح ثورية متجددة عاشها لأسابيع في قلب مدرسة ثورية عربية ذات أفق أممي واضح.
الرحلة إلى أمريكا الوسطى:
عاد الشهيد لسان الدين من لبنان إلى أوروبا طبيبا ممارسا لمهنته ومناضلا في أوساط الشباب الأممي ونشاطات التضامن مع الشعوب المضطهدة. وكانت حينها مدينة أمستردام واحدة من أهم المدن التي تقام فيها تلك الأنشطة. يحدثني الدكتور نور الدين دحان، رفيق دربه في كلية الطب بالرباط، الذي غادر إلى هولندا لاستكمال دراساته التخصصية هناك، كيف أن بلدية أمستردام إبان تولي اليساري إدوارد فان تاين Ed van Thijn)) منصب عُمدتها بين سنوات 1982-1994، شكلت معقلا أساسيا للتضامن مع ثورات شعوب أمريكا الوسطى، وخاصة نيكاراغوا والسلفادور، حين كان الساندينيون يخوضون معركة مواجهة النفوذ الأمريكي هناك. حتى أنه في إحدى المرات تمّ استقبال دانييل أورتيغا (رئيس نيكاراغوا الحالي) وتنظيم استقبال حافل له هناك قبل وصوله إلى السلطة سنة 1985. كما لعبت إحدى كنائس أمستردام ذات التوجه التقدمية (الثوري) أدوارا مهمة، حيث إنها كانت تقدم الدعم لنظيرتها الثورية في أمريكا الوسطى وخاصة في نيكاراغوا والسلفادور..
في هذه الأجواء، قرر لسان الدين التوجه إلى أمريكا الوسطى بعد عودته من تجربته الثورية من المشرق العربي في إطار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
اتخذ لسان الدين قراره النهائي بالالتحاق بأمريكا الوسطى بعد أن نضج عنده تصور مفاده أن القوى الثورية هناك تخوض واحدة من أهم تجارب النضال الأممي في العالم، لذا آن أوان الانتقال إليها.
ودع حبيبته ساندرا في سويسرا وأخبر عائلته في رسالة بأنه مُقدِم على خوض تجربة إنسانية أخرى دون تفاصيل، في صيغة كانت تقتضيها ظروف العمل الثوري حينها.
رسالة بخط يد الشهيد لسان الدين إلى أسرته
وانطلاقا من تحليل الشهيد لسان الدين للأوضاع في جبهات الصراع مع الإمبريالية، كان يعتبر أن المعركة الفاصلة معها كانت هناك في السلفادور (أمريكا والقوى اليمينية..)، حيث كان يعتقد أن هناك جبهتين فاصلتين في مواجهة الإمبريالية بعد انتصار الشعب الفيتنامي؛ هما لبنان حيث تخوض المقاومة العربية (اللبنانية والفلسطينية بدعم أممي) معركة قوية مع المشروع التوسعي الصهيوني، والسلفادور حيث تجهد الإمبريالية الأمريكية في السيطرة على منطقة أمريكا الوسطى بالحديد والنار مانعة قيام أي نظام تحرري جديد هناك يُسند الصمود الكوبي في الخاصرة الأمريكية. في تلك اللحظة، كان اليانكي الأمريكي ما زال يتعامل مع أقطار أمريكا الوسطى بمنطق تعامل “شركة الفواكه المتحدة”، الشركة الأمريكية التي كانت تتاجر في الفواكه الاستوائية والموز في دول أمريكا الوسطى والجنوبية، مطلع القرن العشرين، وكانت تحكم معظم أمريكا الوسطى عبر التحالف مع حكام عسكريين مستبدين تتحكم فيهم كما تشاء، حتى أطلق عليها لقب جمهوريات الموز. وهي التجارب التي يمكن تلمّس مظاهرها بدقة كبيرة، في رواية الكاتب الغواتيمالي ميغل أنخيل أستورياس “السيد الرئيس” التي فاز بها على جائزة نوبل للآداب سنة 1967.
تجربة السلفادور:
هكذا، انتقل لسان الدين إلى السلفادور عن طريق نيكاراغوا، القاعدة الخلفية لثوار السلفادور حينها. كان ذلك سنة 1984 ملتحقا بالحزب الثوري لعمال أمريكا الوسطى: (el Partido Revolucionario de los Trabajadores Centroamericanos) (PRTC). الذي أسسه “فابيو كاستيلو فيغوروا”، أحد المكونات الأربعة لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، الإطار الجبهوي الذي قاد الثورة هناك. وقد كان في مبادئه التحررية يطرح توحيد أمريكا الوسطى مع مضمون يساري يجمع بين تحرير أقطار أمريكا الوسطى من الأنظمة الفاشية التابعة للمخابرات الأمريكية وتحرير الكادحين فيها (عمالا وفلاحين) من القهر الطبقي الذي تمارسه عليهم الأقليات اليمينية الوظيفية المتنفذة في تلك الأقطار. وهو في طرحه لرؤية المعركة الواحدة في أمريكا الوسطى، كان قريبا من الطرح التحرري الذي اقترحه الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي في مكتب تحرير المغرب العربي في القاهرة لتحرير المنطقة وتوحيدها، مع فارق في تبني مضمون ماركسي حول العلاقة بالداخل بالنسبة إلى أطروحة فابيو كاستيلو.
ترقى الشاب القادم من المغرب بسرعة في صفوف جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، حتى أصبح قياديا فيها، بسبب أخلاقه الثورية العالية. وقد كان المقاتلون هناك يعتبرونه، بسبب ذلك، قائدا أقرب إلى القديس؛ فبالإضافة إلى تفانيه في مهماته الثورية، حيث تكلف بالمدرسة التكوينية داخل جبهة فارابوندو مارتي، كان يمارس مهمته بحب وشغف كبيرين مع تواضع أكبر. وهي الميزة التي كانت لديه في المغرب، حيث كان من موقعه الخلفي البعيد عن التهافت للظهور يلهم المناضلين بأخلاقيات كبيرة.
في البداية، قدم خدماته الطبية ومحو الأمية للسكان المدنيين والمقاتلين. يقول خوسيه رفيقه في المركز، متحدثا عن “فرناندو” وهو الاسم الحركي الذي اتخذه لسان الدين هناك: “كان الرفيق فرناندو طبيبًا ومعلمًا لمحو الأمية، وصديقًا رائعًا وصديقا للجميع… لقد كان مثل الأب الحامي لنا جميعا. لسوء الحظ، وقع في كمين للعدو على تلة غوازابا خلال عملية العدو المسماة بالعنقاء، ولكن ذكرياته لا تزال حية في كل من أتيحت لهم الفرصة لمقابلته أو محاربته حتى”.
كان فرناندو جزءًا من مستشفى تم تشكيله، كما قدم دروسا في محو الأمية والسياسة في المدرسة الأولى التي تم إنشاؤها في سان ميغيل مع مجموعة مجندة.
في وقت لاحق، أشرف على تأسيس مستشفى آخر في سان فيسنتي وآخر في غوازابا.
“لقد كان رجلاً عظيماً، وكان من دواعي الفخر لي أن أكون في مدرستين سياسيتين عسكريتين مع “فرناندو”: الأولى في 1984 بسان فيسينتي والثانية في غوازابا سنة 1985. ثم اختاروا مجموعة لتكون جزءًا من القوات الخاصة حيث ساهم تكويني على يديه في اختياري”، يقول رفيق آخر عاش معه عن قرب.
(لسان الدين مع مارغريتا ومناضلين آخرين)
لقد كانت الحرب في السلفادور واحدة من أقذر الحروب التي شنتها أمريكا عبر “قبعاتها الخضر” وحلفائها المحليين في الجيش السلفادوري وفرق الموت المرتبطة به، وارتكبت مجازر شنيعة في حق المدنيين في إطار نظرية أطلقتها تحت مسمى “استنزاف البحر”، وتقصد بها تجفيف البحيرة من الماء حتى لا تستطيع الأسماك من العيش. ردا على نظرية طرحها الزعيم الصيني في أطروحاته أوصى فيها أن يكون المناضل الثوري مثل السمكة التي تتحرك في الماء، أي بين أبناء شعبه. ولذلك كانت هناك موجات عاتية من القصف الذي كان يستهدف مدنا وبلدات بأكملها حتى يتم تفريغها من المدنيين (مثل عملية الموزوت وعملية الفينيكس)…
إذ بعد انتصارات كبرى للقوى الثورية قامت قوات الجيش وفرق الموت الموجهة من المخابرات الأمريكية بشن حملة عسكرية دموية على مدينة غوازابا (التابعة لمحافظة العاصمة سان سالفادور) ومحيطها، بعد محاصرتها لأسابيع حيث لا ماء ولا غذاء ولا دواء لعشرات الآلاف من المدنيين الذين اضطروا لأكل حشائش الغابات. حينها كان الشهيد لسان الدين قائدا مسؤولا عن تلك المنطقة، “وكعادته لم يكن يلزم من هم تحت إمرته بالخروج والذهاب للاستطلاع، حتى يتسنى للمجموعة التي توجد معه من المقاتلين والمدنيين الحصول على ما يسد رمقهم، فخرج بنفسه للاستطلاع مع دورية صغيرة، حيث تم عزله وتصفيته”، تخبرني بأسى بالغ رفيقته مارغريتا المناضلة الأممية الباسكية التي كانت موجودة هناك. لقد كانت تتحدث وملامح الصدمة مطبوعة على محياها، على الرغم من أن الحادثة قد حصلت منذ أكثر من 30 سنة.
وتضيف مارغريتا: “استشهاد الدكتور لسان خلّف حزنا وحسرة كبيرين في أوساط مناضلي جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني والمواطنين هناك، وكان خسارة كبيرة للثورة… لقد كان حريا به أن لا يخرج بنفسه للاستطلاع، هذا كان رأي الكثير من الرفاق حينها. لكن أخلاقه الثورية جعلته يخرج بنفسه مترفعا عن أن يصدر أوامره لأحد حتى يقوم بمهمة الاستطلاع”.